أوجستو بوال.. الفن يلتحم بالناس في مسرح المقهورين
"لقد
مل الناس من الوعظ.. إنهم يريدون أن يسمعونا أصواتهم" هذه هي خلاصة فكرة
الأنماط المتعددة من "مسرح المقهورين" كما يعبر عنها أوجستو بوال المخرج
المسرحي البرازيلي ومبدع تلك الأنماط التي يقول عنها أيضا: "إنها عملية من
التفكير المشترك.. أو طريقة لبث الديناميكية في المشاهدين، بدلا من مجرد
تقديم عرض لهم، فعلى عكس المسرح السياسي التقليدي في عقد الستينيات، والذي
كان يخبر الناس بما يجب عليهم فعله، نحن هنا نسأل الناس: ماذا يريدون؟"
ويقول أيضا: "إن البعض يصنع للناس مسرحا، بينما نحن هنا جميعا مسرح".
تعلم المسرح من امرأة وفلاح
ولد
صاحب هذه التجربة أوجستو بوال Augusto Boal في ريو دي جانيرو بالبرازيل
عام 1931، وكانت بدايته دراسة الهندسة الكيميائية هناك، لكنه غيّر مساره
فالتحق بجامعة كولومبيا لدراسة المسرح في نهاية الأربعينيات من القرن
العشرين.
وعلى
الرغم من اهتمامه المبكر بالمسرح فإنه لم يعمل به إلا بعد حصوله على
الدكتوراة من كولومبيا. وكان أول عمل له بالمسرح كمؤلف عام 1957 حين قدم
للقراء مسرحية: زوجة الهزيل وزوج الخسيسة: "Lean Wife ,Mean Husband"، لكنه
تحول إلى الإخراج عام 1961 ليصبح الرائد في تقديم ما يعرف بمسرح الاحتجاج
السياسي على المسرح الدائري Arena Theatre لمدينة ساو باولو، والذي بدأ
عروضه فيه بنماذج من الدراما الأوربية، ثم تحول إلى استلهام نصوص نابعة من
التراث المحلي.
وفي
فترة الستينيات وتفاعلا مع حالة الظلم الاجتماعي التي كان يعيشها القسم
الأكبر من الشعب البرازيلي بدأ بوال في تقديم لون من ألوان المسرح
السياسي/الاجتماعي طاف به في أفقر مناطق البرازيل ووسط الطبقات المهمشة من
الشعب البرازيلي، متأثرا فيه بالفلسفة التعليمية لـ"باولو فريري".
وبينما كان يقدم أحد عروضه تلك وقف قروي من بين المشاهدين مقترحا عليه
تعديلا في أحد مواقف مسرحيته، وهو ما جعله ينتبه إلى ضرورة أن يستمع إلى
أصوات الناس. ومن ثم بدأ في الاقتراب خطوة نحو تقديم مسرح أكثر اعتمادا على
المشاهدين، حيث كان يطلب من المشاهدين أفكارا لتغيير نهايات عروضه، إلى أن
وقفت إحدى النساء ثائرة مرة بسبب إساءة ممثليه تقديم ما اقترحته من
تعديلات على أحد النصوص، وكان التعديل يتعلق بالتعامل مع زوج خائن طبقا لنص
المسرحية، وهو الأمر الذي جعله يدعوها إلى الصعود لخشبة المسرح لتريهم كيف
تريد للموقف أن يؤدى، وقد كانت هذه الشرارة التي أضاءت أمامه سبيل
الإبداع.
المشاهد/ الممثل ومسرح الحوار
من
هذا الموقف الْتمع في ذهن بوال فكرة إبداعاته في المسرح والتي ترتكز في
الأساس على ما يسمى بمسرح الحوار أو "الديالوج" بديلا عن مسرح الحديث من
طرف واحد أو "المونولوج"، وهو المسرح الذي يتحول فيه المشاهدون من مجرد
"نظارة" أو "spectators" إلى مشاهدين/ ممثلين أو spect-actors.
بدأت أول تنويعات بوال على ذلك اللون من المسرح بنمط أسماه مسرح الملتقى Forum Theatre
والذي يهدف إلى توليد حلول للمشكلات المختلفة سواء الاجتماعية/ الاقتصادية
أو السياسية، كما يهدف إلى التمرن على الفعل في الحياة الحقيقية وذلك من
خلال نص مسرحي حواري يدور حول تلك المشكلة ويشترك في أدائه الممثلون
والمشاهدون.
وقد
لفت ذلك الإبداع المسرحي إليه الأنظار باعتباره ناشطا ثقافيا، الأمر الذي
نظرت إليه السلطة العسكرية الحاكمة في البرازيل في عقد الستينيات كمصدر
تهديد.
وفي عام 1971 أصدر كتابه الأشهر مسرح المقهورين أو Theatre of the Oppressed
والذي ينظّر فيه لهذا اللون من ألوان المسرح من وحي تجربته العملية، ومن
وحي أفكار فريري. وقد صار هذا الاسم ليس فقط عنوانا لكتاب بوال، بل صار
عنوانا لمدرسة جديدة ومتميزة في المسرح يرمز لها اختصارا بـ"T.O. ".
النفي.. سياحة وعالمية
وبعيد
نشره لهذا الكتاب تعرض بوال للاعتقال والتعذيب، ثم نفي إلى الأرجنتين، ومن
هناك سافر إلى فرنسا، حيث ظل اثني عشر عاما يدرّس منهجه الثوري في المسرح،
مؤسسا عددا مما يسمى بمراكز مسرح المقهورين. وفي أوربا وجد بوال ألوانا
أخرى من القهر متمثلة في العنصرية أو في الأجور المنخفضة للعمال، كما تعرف
على ألوان من القهر الداخلي متمثلة في مشاعر الخوف والوحدة وعدم القدرة على
التواصل الاجتماعي، ومن ثم بدأ ينظم عددا من ورش العمل عام 1981 والتي
كانت تضم المعالجين النفسيين والعاملين الاجتماعيين ورجال المسرح، وذلك
لعلاج ما أسماه "شرطي داخل الرؤوس cop in the head". والتي اخترع لها سبيلا للعلاج المسرحي أسماه "طيف الرغبة أو Rainbow of Desire"
ضمنه كتابه الثالث المعنون بهذا الاسم والذي صدر بالإنجليزية عام 1995،
والمخصص للحديث عن المهارات المطلوبة لعلاج المشكلات الاجتماعية الناتجة عن
ذلك الشرطي الذي يحتل رؤوسنا. وفي عام 1981 استطاع بوال أيضا أن ينظم أول
مهرجان عالمي لمسرح المقهورين في باريس.
من المنفى إلى الحكم المحلي
وفي
عام 1986 وعقب زوال الحكم العسكري عاد بوال إلى ريو دي جانيرو حيث أسس
مركزا كبيرا لمسرح المقهورين، كما أسس أكثر من اثنتي عشرة شركة تقوم بتقديم
عروض مجتمعية، تقدم مسرح الملتقى ولونا آخر من المسرح هو مسرح الصورة Image Theatre الذي يقوم فيه أفراد بنحت الشخصيات والعلاقات لمصاحبة راوية للقصة.
وبداية
من عام 1990 تعاون بوال مع مسرح البالون في لندن، وهو ما أثمر عن ابتكار
ما يسمى بمسرح المواطنين الكرتونيين Cardboard Citizins، حيث تم تكوين فرقة
مسرحية من ثمانية من المشردين لتقديم عروض من مسرح المنتدى في المدارس
وبيوت ومراكز الشباب، وقد طافت الفرقة أربع مرات في أنحاء بريطانيا، وتم
تشكيل عدد آخر من الفرق المماثلة.
كما
ابتكروا سويا أنماطا من مسرح المنتدى لبحث مشكلة مرض الإيدز في أوساط
الشباب، ولمساعدة من لديهم مشكلات تعليمية على تجاوز مشكلاتهم، كما قدموا
مسرحا للصم، وآخر بين المسجونين.
وفي عام 1992 أصدر بوال الترجمة الإنجليزية لكتابه الثاني بعنوان "ألعاب للممثلين وغير الممثلين Games for Actors and Non-actors"
ويحتوي الكتاب الذي صدر بالبرتغالية عام 1982 على مدخل أساسي إلى مسرح
المقهورين نظريا وتنويعاته العملية المختلفة، بما يتلاءم مع كل من لديهم،
ومن ليس لديهم خبرة بالمسرح.
والألعاب
Games هي مجموعة من الأنشطة البدنية مصممة كي يتحدى الإنسان نفسه في أن
ينصت إلى ما يسمع، ويبصر ما ينظر إليه ويحس ما يلمس، وباختصار فإنها ألعاب
وتدريبات تهدف لرفع درجة انتباه حواس الإنسان، وتجعل جسده أقل ميكانيكية،
وتخرجه من أسر السلوك الاعتيادي، ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتحرر من
التفكير والتفاعل النمطي، ويحتوي طيف ألعاب مسرح المقهورين على 200 من تلك
الألعاب التدريبية.
وفي نفس ذلك العام دعي بوال لتقديم عدد من ورش العمل حول ألعابه تلك في إطار المؤتمر القومي (الأمريكي) لجمعية المسرح في التعليم العالي.
وفي خريف عام 1992 نفسه انتخب بوال عضوا في مجلس مدينة ريو دي جانيرو على قائمة حزب العمال البرازيلي الذي ينتمي إليه الرئيس الحالي لولا.
ومن خلال منصبه استطاع بوال الحصول على تمويل لكي يعقد المهرجان العالمي
السابع لمسرح المقهورين والذي اجتذب 150 من ممارسي ذلك اللون من ألوان
المسرح من أنحاء العالم المختلفة.
فريري وبوال.. تعليم ومسرح المقهورين
وخلال الفترة من عام 1995 إلى 1997 حضر بوال ثلاثة مؤتمرات سنوية لتعليم ومسرح المقهورين Pedagogy & Theatre of the Oppressed Conferences كانت
تنظم للمرة الأولى من قبل جامعة أوماها بولاية جورجيا الأمريكية، قدم
خلالها بوال عددا من ورش العمل حول الأنماط المختلفة لمسرح المقهورين.
وعلى
الرغم من تتلمذ بوال على فكر فريري في التعليم التحريري، حيث اختار كل
منهما تحرير المقهورين The Oppressed كمحور لرسالة حياته سواء في التأليف
أو في الممارسة العملية، وابتكر كل منهما من الأساليب الجديدة في تعليم
الكبار أو المسرح ما يجعل من تلك الأدوات وسيلة لذلك التحرير المنشود. رغم
ذلك فقد كانت المرة الأولى -والأخيرة- التي يلتقي بوال فيها بفريري في
مناسبة عامة وكان ذلك خلال المؤتمر الثاني لتعليم ومسرح المقهورين، حيث
حضرا مؤتمرا صحفيا مشتركا واستطاعا الإجابة على أسئلة آلاف المشاركين
والصحفيين.
وقد
توفي فريري في مايو من العام التالي، وهو ما أثار حزن بوال الذي عبر عنه
بقوله: "أنا شديد الحزن، لقد فقدت آخر أب لي، وما بقي لي الآن إلا أخوة
وأخوات".
أنماط أخرى من مسرح المقهورين
وفي
عام 1996 وخلال عضويته بمجلس مدينة ريو دي جانيرو ابتكر بوال نمطا جديدا
لمسرح المنتدى أسماه المسرح التشريعي، وذلك خلال جولاته بين أهالي المدينة
لمناقشة أهم مشكلاتها، والخروج بتوصيات تشريعية لحلها، مستخدما طريقته في
مسرح المنتدى، وقد أثمرت تلك الجولات الوصول إلى تشريعات حقيقية لحل بعض
مشكلات المدينة. وقد وثق بوال تجربته تلك في كتاب صدر بالإنجليزية عام 1998
بعنوان: المسرح التشريعي: استخدام الأداء المسرحي لصنع السياسة Legislative Theatre:Using Performance to Make Politics.
وفي عام 1997 توجت جهود بوال بحصوله على جائزة الإنجاز المهني من جمعية المسرح في التعليم العالي بالولايات المتحدة.
وهكذا
فإن عجلة الإبداع والابتكار في الأساليب المسرحية لا تنتهي، حيث أصبح مسرح
المقهورين علامة على مدرسة مميزة في المسرح يؤمها الآلاف في قارات العالم،
ولا تتوقف عن توليد أنماط جديدة من المسرح، وطالما كانت هناك بيئة صحية
للإبداع فلماذا لا يبدع الإنسان. وتبقى مدرسة بوال مفتوحة للإبداع في
الأداء المسرحي سواء بقي بوال أو ذهب.
- الكود:
-
http://www.4shared.com/office/Yy-49GHp/Boal_Agusto_-Theatre_of_the_Op.html