إذا كان الله جباراً وعالماً بكل شيء، وإذا كان الله خيراً، فكيف يسمح بوجود الشرّ والألم؟ إن العلماء يعرفون جواب هذا السؤال والذي يتلخص في كلمة " Theodicy" أي الدفاع عن كون الله خيراً مطلقاً بالرغم من وجود الشر. العبرانيون القدماء، أولئك الذين كتبوا التوراة وأولئك الذين كتبوا الإنجيل كان بإمكانهم أن يدركوا جيّداً أنّه مهما كانت غايات الله فإنّها لا تتضمّن التأكيد على تطبيق العدالة في حياتنا هذه. الكثير منا يفكرون ويقولون لأنفسهم إن وجود العذاب والشرّ – اللذيْن لا معنى لهما – يُبين أن الصفات المفترضة لله (كلية القدرة، العلم بكل شيء، الخير المطلق) لا يمكن أن توجد بدون تناقضات تنفيها.
في حياتنا هذه من غير المحتمل أن نعلم سبب حدوث الأشياء السيّئة أو حتّى وجود الشرّ، ولكن بالعودة إلى الأدب والقصص القديمة قد نحظى بنصيب من المعرفة. ففي سفر أيّوب الموجود في التوراة يكمن الجواب على هذا السؤال.
قدّم الله أيوبَ كإنسان نموذجيّ في محاورة مع الشيطان قائلاً:" هل تأمَّلت عبدي أيّوب؟ سوف لن تجد له مثيلاً على الأرض، إنّه رجل ذو حياة مستقيمة بريئة، يخاف الله ويحيد عن المعصية." قال الشيطان مستفزاً الله:" ألا يملك أيوب سبباً وجيهاً ليخافك؟ ألم تغمره وعائلته وكل ما يملك بحمايتك؟ فأنت تبارك كل ما يفعله، وقطعانه تزداد بشكل يفوق الوصف، ولكن مدَّ يدك إلى ما يملكه وحاول أن تأخذه منه لترى كيف سيلعنك في وجهك."
من الجلي أنّ الله مقامر بطبعه لذا فقد قبل الامتحان الشرّير الذي اقترحه الشيطان عليه: إذا ردَّ أيوب على العذابات التي يفكر فيها الشيطان ولعن الله فالشيطان هو الفائز. وإذا لم يفعل أيّوب فالفوز سيكون من نصيب الله. (لا أعرف لماذا يفكر أحدهم بأن يراهن ضد خصم عالم بكل شيء؟!).
بمعرفة الله وإذنه يبدأ الشيطان بتدبير عملية سرقة جميع ثيران وحمير أيوب بالإضافة إلى قتل الرعاة. من ثمّ، تحرق "نيران الله" خراف ورعاة أيوب. بعدها تسرق ثلاث مجموعات من اللصوص جمال أيوب وتقتل الرعاة أيضاً. أخيراً، تثور زوبعة لتهدم بيت أكبر أبناء أيوب على رؤوس أولاده السبعة وبناته الثلاث لتقضي عليهم جميعاً. ومع أنّ أيوب يندب هذه الفاجعة إلا أنّه لا يلعن الله! لذا وبإذن من الله يغطّي الشيطان جسد أيوب بقروح مؤلمة، ومع ذلك فأيّوب لا يسبّ الله مع أنّ زوجته تحثّه على ذلك.
إن أي مشفىً حديث أو لجنة للأخلاق تابعة لجامعة ما تستعرض اقتراحاً لاختبار يشمل أفراداً من الجنس البشري سوف لن توافق على اختبار كهذا أبداً، ولكن لم يفكر أحد أن ينتقد الله زمن الكتاب المقدّس. ذلك لأنّ القيم الأخلاقية تختلف من مجتمع لآخر وتتغير بمرور الزمن بالإضافة إلى أنّها ليست مطلقة. ومع أن العديد من قيمنا وأخلاقياتنا تعود بجذورها إلى أسلافنا القدماء إلا أننا تعلمنا الكثير منذ الأزمان الغابرة تلك. كانت بعض مثلهم الأخلاقية جيدة والأخرى سيئة، فنصوص الكتاب المقدس على سبيل المثال تقدم العديد من القواعد والأحكام التي تنظم العبودية ولكنها - على حدّ علمي - لا تدينها وتحكم بأنّها خطأ، وسأورد هنا الآيات الثلاث الأوَل من سفر أيوب كمثال على ذلك:
"هناك في أرض عوص عاش رجلٌ حياةً بريئةً مستقيمة اسمه أيوب، يخشى الله ولا يرتكب المعاصي. كان لديه سبعة أولاد وثلاث بنات؛ وكان يملك سبعة آلاف رأس غنم وثلاثة آلاف جمل وخمسمائة ثور وخمسمائة حمار، بالإضافة إلى الكثير من العبيد، لذا فأيّوب كان أعظم رجل في الشرق."
إننا نشعر بالخجل لأن توماس جيفرسون – واضع "بيان الاستقلال" – كان لديه عبيد يوماً ما. لم يشعر أي عبراني في ذلك الوقت من امتلاك أيوب للعبيد، فلقد اعتقدوا أن امتلاك العديد من العبيد امتياز من الله. وبالطبع في عصرنا هذا لدينا مشكلة في الدفاع عن قيمنا كما كانت لأسلافنا، لكن معاييرنا اليوم هي أعلى بكثير مما كانت في تلك الأيام. فلم يصل إلينا أي نوع من التعليق من قبل القدماء على المعاناة والعذاب الذي ذاقته زوجة أيوب وعبيده ورعاة قطعانه وأولاده. أما القرّاء في عصرنا هذا وهم يقرؤون هذه القصّة يشعرون بالتعاطف ويتفهمون عذاباتهم. إن قيمنا اليوم قد تقدّمت وارتقت.
لقد صُدم أصدقاء أيّوب جرّاء الكوارث الرهيبة التي ابتلي بها، وسألوه ما إذا ارتكب هو أو أحد أقاربه خطيئة استحقوا على إثرها هذه العقوبة. ردَّ أيوب بثقة أنه هو وعائلته أبرياء تماماً. وفي محاولة لمواساة أيوب يقول له أصدقاؤه إن غاية الله صعبة على الفهم ولكنها لا بد وأن تكون حميدة. يجد أيوب صعوبة في قبول هكذا تفسير (كحالنا تماماً). ولكن وبالرغم من طلب أيوب تفسيراً من الله إلا أنّه لا ينتقده أبداً - ويكسب الله الرهان.
إنّ سفر أيّوب واحد من أعظم الأمثلة على الأدب الساخر، هذا الأدب الذي بواسطته يعلم القراء أشياء لا تعرفها شخصيات العمل نفسه. فما نعرفه أن معاناة أيوب لا توجد لها أية صلة بالغايات الكونية العظيمة الغامضة، ولكنها على العكس نتجت عن محادثة صغيرة تافهة بين شخصيتين طائشة لامبالية من جهة ووحشية قاسية من جهة أخرى. ونحن نعرف أن أيوب بريء، ونعرف أيضاً أن النقاش بين أيوب ورفاقه مثير ولكنه غير ذي صلة بالموضوع. إنّ الله سمح بتدمير حياة أيوب كلياً ليحسم رهاناً أشبه بالرهانات التي تجرى في الحانات. وكأن الله يقول لإبليس:" لقد دفعتني إلى تدميره بدون أي سبب."
هل يشعر الله بالخجل لأنه سمح بحصول تلك المعاناة؟ بالطبع لا. وفي النهاية عندما ظهر لأيوب هل أخبره بالحقيقة؟ بالتأكيد لا. لقد كان بإمكانه ببساطة أن يقول لأيوب:" أنا آسف على الضرر والمعاناة التي سمحت بحدوثهما لك ولعائلتك وخدمك وأسراب طيورك وقطعانك، فلقد كان هذا ضرورياً لخططي من أجل العالم، ولم يكن هناك من وسيلة أخرى. وبسبب طريقة استجابتك للأمر فلدى جميع البشر الآن مثال متألق مشرق عن كيفية تحمّل عذاب محتوم ظالم وغير مستوجب. شكراً لك على تعاونك، وأنا فخور بك جداً. إنّ اسمك ومَثَلك سيعيشان إلى الأبد." وبدلاً من ذلك فإنّ الله يتهرّب من المسألة بالكلام المنمّق والتضليل، فها هو يسأل أيّوب الضعيف وكأنه يلومه:" أين كنتَ أنت عندما أرسيتُ دعائم الأرض؟" وهنا فالله يلمح وبطريقة خاطئة أن معاناة أيوب لها غاية كونية عظيمة وهي من التعقيد بحيث يصعب على أيوب أن يفهمها. وفي حالة استسلام وإحباط يردُّ أيوب:" ولكنّك تحدّثني عن أشياء عظيمة لا قدرة لدي على فهمها، أشياء مدهشة وعجيبة جداً بالنسبة لي لمعرفتها."
إنّ العديد من الناس يعتقدون أنّ الله العطوف المجسد يعمل على رفاههم وخيرهم، ولكن البرهان الأدبي الذي سقناه لا يحوي ما يؤيد هذا الاعتقاد. وحتى إذا كان الله موجوداً، فإن غاياته الغامضة قد تتعدانا نحن البشر، أو ربما هو يلعب معنا، أو يعذّبنا. يمكنني القول أنّ الكون لا هدف له، وعلينا نحن البشر أن نقرّر ما هو مهمّ بالنسبة لنا، وأن نرتّب أولوياتنا. الغاية والمعنى ليسا من خاصيات الكون كما الحال بالنسبة للكتلة والطاقة. بالأحرى فالغاية والمعنى هما من خلق البشر – فخرنا ومأساتنا.
إليكم ما أؤمن به: إنّ كلّ واحد منّا مسؤول عن المعاني الخاصة والعامة لحياته الشخصية إلى الحدّ الذي نستطيع التحكّم بقدرنا والتنبؤ بعواقب أفعالنا. ولكي نواجه الشر، ونستجيب لمعاناة البشر (معاناتنا أو معاناة الغير)، ولكي نتعايش مع الكوارث الطبيعية، فعلينا أن نعتمد فقط على أنفسنا. يجب أن نتعامل مع هذه المآسي بشكل فرديّ وجماعيّ – فنحن لا يمكننا أن نعتمد على قوى خارقة للطبيعة لكي تساعدنا.
برنارد ليكيند: Bernard Leikind فيزيائي ذو نزعة شَكيّة، معروف بأبحاثه وتفسيراته لعمليّة المشي على الجمر أو النار. يعيش بالقرب من سان دييغو.
نشر المقال في:
The Humanist - May / June 2010