احتفالا بحياتنا العادية ضد ثلاثية فتشية السلعة، الكيتش، والبترودولار
كاتب الموضوع
رسالة
tousman
عدد المساهمات : 650 تاريخ التسجيل : 08/05/2011
موضوع: احتفالا بحياتنا العادية ضد ثلاثية فتشية السلعة، الكيتش، والبترودولار الثلاثاء مايو 24, 2011 3:04 am
من يحدّد حاجاتنا؟ هذا السؤال البسيط والمعقّد في آن، سنحاول أن نسأل السؤال بطريقة أخرى: ما هي حاجاتنا الأساسية؟ هل هي الطعام والشراب وربّما النوم والأمان، وقد نحتاج فيما بعد التسلية ـ أي تقطيع الوقت بانتظار الوجبة التالية ـ هل لا نحتاج حقّا غير هذه الأمور؟
يتحدّث البعض عن الثقافة، ولكن لنتكلّم بصراحة: إذا كان معظم الناس قد وجدوا طريقتهم في قضاء الوقت على هذه الأرض بالعودة للأساسي أي للغريزي، فلِمَ يتوجّبُ علينا ـ أنا وبعض غريبي الأطوارـ أن نهتمّ بالثقافة؟ والحال أنّها لن تزيد وضعنا النفسي إلا سوءًا…سنبدأ برؤية الأمور بطريقة تختلف عن المحيط الاجتماعي، وسنبدأ بالتذمّر وربّما راودتنا ـ على سبيل التعويض النفسيّ ـ مشاعر فوقية، وهذا كلّ شيء .. فهل نحتاج فعلاً للثقافة ؟
إذاً ما هي حاجاتنا فعلا؟ً هل من الممكن أن نكون، نحن حفنة المتذمرين، على حقّ، ولو نسبيّا، معظم المجتمع على خطأ؟ في الحقيقة القصة بسيطة جداً: أريد أن أحيى بحرية بعيداً عمّا يسرق وقتي، أريد أن أحدّد خياراتي، على الأقلّ داخل منزلي… على يميني علبة كوكاكولا ومحطة تلفزيون خليجية وعلى يساري كتاب طوق الحمامة، على يميني يقف عالم لم أستسغه حتى الآن ـ ربّما بسبب أصولي الريفية ـ وعلى يساري عالم يخفّف عني ويزيدني اغتراباً عن الضجيج اليومي الجارف، هذا اليوم لن أشيح بوجهي يساراً بل سأمسك ما أشيح عنه بوجهي لأتعرّف عليه أكثر، سأفرغ محتويات علبة الكولا وآخذها إلى المخبر، ثمّ أمزق العلبة لأعرف من أيّ معدن سماويّ قد صنعت، وأفكّك التلفزيون باحثاً عن "شيطان سرقة الوقت"، ومرّة أخرى سأعود إلى مصطلحات أساسية لم تتركنا لأنّنا ببساطة لم نستطع تغيير أحولنا إلا لما هو أسوأ.
فتشية السلعة
فتشية السلعة مصطلح توصّل إليه صديقنا القديم كارل ماركس قبل حوالي مئة وخمسين عاماً، وهو مصطلح ظهر قياسا إلى فتشية الطبيعة، أي الأرواحية، وهي إسقاط الروح على أشياء حرّكت مشاعر الانسان القديم كالأشجار والجبال والحجارة … وفي العصر الحديث ومنذ بداية افتراق الإنسان المدني عن الطبيعة وظهور صناعة تكرّر المنتج بشكل مطابق في الشكل والنوع، انتقل مصطلح الفتشية ليشمل السلعة المصنّعة بشكل يغيب فيه إدراك المستهلك للكيفية التي صنعت بها، حتى يخالها قد وجدت من ذاتها بشكل مستقلّ عن النشاط البشري.
متى كانت آخر مرة ذهب فيها أحدنا إلى الطبيعة وتحسّس بيديه ورقة شجر أو سنبلة قمح؟ لنتعرّف أكثر على مفهوم فتشية السلعة علينا تذكّر هذا السؤال دائماً ..سأحاول المضيّ أعمق في تحسّس هذه الفكرة، فتشية السلعة تقوم على توقّف الزمن وعلى غياب حسيّة المواد من حولنا، فنتوقّف عن قبول ما هو غير مشذّب وغير ملمّع، بل وما هو غير مصنع آلياً، إنّ ما تعلّمنا إيّاه وسائل الإعلام وتسوقنا إلى الانضمام إليه هو فكرة أننا سنكون خارج الجنّة الاستهلاكية "الجميلة" والمشذّبة إذا لم نشارك في العالم الذي ترسمه لنا في الدعايات وفي الأفلام الهوليودية التي تغرقنا بها طوال اليوم، وفي الحقيقة سيكون علينا قبول جحيم اللاانتماء والعيش على هامش الحياة "الحقيقية" إذا لم ننضمّ إلى سباق الاستهلاك، والحياة الحقيقية في الثقافة الاستهلاكية ستوجد أولاً في الصورة المصنّعة المشذّبة، ومن أهمّ خصائصها غياب الزمن، وبالتالي غياب فكرة الموت التي هي في الحقيقة تكمل مفهوم الجمال الحسّي اليومي وبالتالي الحقيقيّ فعلاً، هل نستطيع تخيّل وردة دون فكرة أنها ستذبل بعد أيام، أو مرج في الطبيعة - وليس في نوادي السبعة نجوم وسط الصحراء- دون أن ندرك أننا بعد أشهر سنجده جافّاً هشيماً، أو أنّ امرأة جميلة أحببناها يوماً ستكبر وتشيخ، فيولد فينا شِعرُ الحنين والبحث عن "الزمن المفقود".
في الثقافة الاستهلاكية لا يوجد "زمن مفقود"، إنه زمن خالٍ من ذكريات شخصية وبالتالي من الفردية، رغم ما تدّعيه هذه الثقافة من ترويج للفردية وللاستقلالية. إن ما تصنعه هذه الثقافة في الحقيقة، هو أكثر خطورة. إنّها تصنع "ذكرياتنا"، سنجد المغنّي فلانا يتألّم وهو يتذكّر الأيام السعيدة مع محبوبته في الفيلا وفي الطبيعة العذراء، وأيضا وهو يقود السيارة غالية الثمن ..وهكذا تولد جنّة الرومانسية العذراء "المشذّبة" التي تُخلق فيها الأشياء هكذا من غير مقدمات ولا خلفيات، فليس علينا السؤال أين هذا المكان في الفيديو كليب؟ إنه اللامكان (الجنة)، وليس علينا السؤال من أين أتت شخصية الفيديو كليب بالنقود لتحيى برفاهية، فسؤال كهذا سيعكّر صفو الحلم الاستهلاكيّ، ويجعلنا نلمس الماديّ واليوميّ والحقيقيّ الحسّيّ، وهذه قمّة الكفر في الثقافة الاستهلاكية، فكيف إذا أضيفت إليها ثقافة البترودولار المعمّمة من المحيط إلى الخليج؟
قلنا إنّ هذه الثقافة باتت تصنع ذكرياتنا "افتراضياً"، بمعنى أنّها تدخلنا في منافسة - خاسرة طبعاً- مع الصورة المشذّبة، وبالتالي بدل الإطلالة على ذواتنا لنتعرّف إلى أنفسنا أكثر، سنقوم خجلين بإلغاء ذكرياتنا و"تحميل" ذكرياتٍ افتراضيةً تدخلنا في فصام؛ بين ما نحن عليه فعلاً وما نتمنّى أن نكون. هنا سنرى "جري الوحوش" اليوميّ للحصول على امتيازات النخبة التي عُمّمت صورتها الملمّعة والناجحة، وستولد حياة عامّة افتراضية تتغذّى على الصورة الملقّنة ويغيب التواصل مع اليوميّ والشخصيّ والذاتيّ.
هجوم معاكس
لا نعرف حقّا شيئاً عن حياة الأشخاص الذين يلاحقوننا في الشارع وفي البيت وفي الصحف ـ صحيح أنّه يبدو أننا من يلاحقهم ولكن الحقيقة معاكسة تماماً ـ ولا نريد أن نعرف إلا بالقدر الذي يساعدنا على فهم من هم وماذا يريدون منّا؟ أمراء البترول أم ملوك تجارة السلاح؟ أم الشبكات الدولية للمتاجرة بكلّ شيء، أم في الحقيقية هم يتبعون السلطة ويخدمونها في أيّ مكان ومهما كان شكلها، ما هو اليوميّ في حياتهم؟ وما هو الذاتيّ والشخصيّ؟ بالأحرى، ما هي المسافة بين ما يُسوّقونه وما يعيشونه؟
من الممكن التكهّن بالطريقة التي تسير بها حياة هذه الطبقة، وهنا لن أكون مسالماً ولا موضوعياً فأترك حياة الآخرين وشأنها، لأنّهم في الحقيقة هم من جعلنا نسأل عنهم بإقحام أنفسهم في حياتنا. ومع ذلك لن ندخل في تفاصيل وأمثلة قد تقودنا إلى ما هو شخصيّ، ولكن سنسأل بضعة أسئلة: كيف هو شكل العاطفة تجاه (المرأة – الأولاد – المجتمع) في حياة هذه الطبقة التي تبني قوّتها أساساً على إقصاء العاطفة وعلى الحسابات الدقيقة للمصالح؟ ما هو مسعاها في الحياة؟ هل نظلمها إذا اعتبرنا أنّ دوافعها غريزية (مال - جنس – سُلطة – جنون عظمة – حسد – ورغبة لا تنتهي في امتلاك أيّ شيء)، وطبعاً ستكون الأمّية الثقافية وقودا لهذه الحلقة المفرغة من الانحطاط النفسي والاجتماعي، ولن تجد عندما تضطرّ لتقديم صورة عن نفسها إلا اللجوء إلا الصور الطفولية النمطية (الكيتشية)، التي تخفي بشكل لا واعي كل ما تخجل منه، وهذه الأشياء التي تخجل منها هي تماماً ما يجعلنا بشراً، والجميل عند هذه الطبقة أنّها تعشق العذرية وتعشق انتهاكها دوماً. فهذه الطبقة تستطيع البدء من جديد دوماَ عن طريق اقتناء كلّ ما هو جديد وعصريّ. وفكرة الامتلاك وفكرة العذرية أساسيتان في حياة هؤلاء الناس، فإذا صدف أن امتلك أحدهم مكتبة مثلاً، فسنجد الكتب مغلّفة بما هو فاخر، وعلى الأغلب لم تقرأ، فأيّ شخص بإمكانه إذا امتلك نقوداً أن يمتلك الثقافة أيضاً.
في أحد الأفلام الوثائقية التي صنعها المخرج عمر أميرلاي عن أحد الأثرياء العرب، يخبر هذا الثريّ المخرج أنّ مصطلح "مثقّفين" ليس حكراً على مجموعة من الناس فهو أي الثريّ مثقّف أيضاً، هنا يبلغ جنون العظمة والامتلاك ذروته، ولكنه أيضاً إعلان للنصر …
ظهر معظم أثرياء العالم العربي في أزمنة الطفرة النفطية وقد استطاعوا خلالها الحصول على ثرواتهم بشكل سريع وأحياناً مفاجئ، فكانت الثروة مفتاحا لتعويض ما غاب في أنفسهم من أحلام أسطورية قد تظهر عند الأطفال في مراحل مبكرة من أعمارهم، وبلغ الوهم عندهم فيما بعد أقصاه بأنهم قد قاربوا الحصول على الخلود، وفي الخلود لا أثر لتقدّم الزمن … ففي مقابل الحياة اليومية "الدنيوية" التي يحياها الملايين في الضواحي المعدمة، تسعى طبقة الثراء الخرافيّ المفاجيء والبترودولار إلى تكريس ونشر تصوّرها عن العالم، فهو عالم لامع ومكتمل، فمن أبنية الزجاج اللامعة إلى السيارات خرافية التصميم والميزات، إلى المجوهرات التي تحمل قيمتها الأبدية، إلى المهرجانات والاحتفالات التي تضيء سماءها الألعاب النارية، إلى الخطاب السياسي البلاغي المنمّق العقيم، إلى القصور الخرافية التي تمتدّ على مساحات كبيرة، وإلى ملاعب الغولف الخضراء على مدّ النظر .. هنا لا أثر لمخلّفات أو بقايا، فكلّ شيء جديد.. إننا على قاب قوسين من الأبدية. هذا المفهوم الجمالي عن الكون سمّي منذ زمن بعيد بالكيتش، وفي روايته "خفّة الكينونة التي لا تحتمل" يغوص ميلان كونديرا عميقاً في شرح وتفكيك مصطلح (كيتش)، وهنا بعض ما عرضه من أفكار، يقول:
"عندما كنت صغيرا وفيما كنت أتصفّح كتاب العهد القديم الذي أعدّ للأطفال والمزيّن بصور، كنت أرى الربّ فيها طائرا فوق غيمة. كان رجلا عجوزا له عينان وأنف ولحية طويلة، وكنت أقول في نفسي إنّه ما دام له فم فيفترض به إذا أن يأكل، وإذا كان يأكل فهذا يعنى أنّ له أمعاء. ولكن هذه الفكرة كانت ترعبنى فى الحال. ومع أنى كنت من أسرة ملحدة إلا أننى كنت أشعر أنّ هذه الفكرة المتعلّقة بالأمعاء فكرة تجديفية، ومن دون أيّ إعداد لاهوتيّ كان الطفل الذى كنته آنذاك يفهم بشكل عفويّ أنّ هناك تناقضا بين الدونيات وبين الله، وكنت أفهم بالتالى هشاشة الفرضية الأساسية لعلم الإناسة المسيحي والتي تقول إنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله.
كان الغنوصيون القدامى يعون هذه المسألة جيدا، ولكي تحسم هذه المسألة اللعينة، كان فالنتين، وهو أستاذ كبير للغنوصية فى القرن الثاني، يؤكّد أنّ المسيح كان يأكل ويشرب ولكنه لم يكن يتغوّط. البراز إذا هو مسألة لاهوتية أكثر صعوبة من مسألة الشرّ، فالله قد أعطى الحرية للإنسان وبذلك يمكننا أن نسلّم بأنّ الله ليس مسئولا عن جرائم البشر.
في القرن الرابع كان القدّيس جيروم يرفض جذريا أن يكون آدم وحوّاء قد تمكّنا من ممارسة الجنس عندما كانا في الجنّة، خلافا لذلك كان جان سكوت إيرجين يسلّم بهذه الفكرة. ولكن حسب رأيه كان بإمكان آدم أن يجعل عضوه ينتصب بالطريقة نفسها تقريباً التي يرفع فيها ذراعه أو ساقه، أي ساعة يشاء وكيفما يشاء. وذلك معناه إذا كان عضو الذكر يقوى على الانتصاب بمجرّد إيعاز من الدماغ، ينتج عن ذلك أنّ بإمكانه الاستغناء عن الإثارة، ذلك لأنّ العضو لا ينتصب لإهتياج المرء وإنما لأنّه يأمره بذلك. كان هذا اللاهوتي يعتقد أن الشيء الذي لا يتّفق والجنّة ليس الجماع ولا اللذّة التي تعقبه، وإنما الإثارة. فلنحفظ هذا جيّدا: كانت اللذّة موجودة في الجنة لا الإثارة.
نستطيع أن نجد من خلال نظرية سكوت مفتاحا لتبرير لاهوتي للبراز. طيلة الفترة التي سمح للإنسان فيها أن يسكن الجنّة إما أنه" تماما كالمسيح حسب نظرية فالنتين" لم يكن يتغوّط، وإما أنّ البراز لم يكن يعتبر شيئا كريها، وهذه الفرضية أكثر قابلية للتصديق. حين طرد الله الإنسان من الجنّة أوحى له بطبيعته النجسة وبالقرف، وأخذ الإنسان يستر ما كان يشعره بالعار، وما أن أزاح الحجاب حتى بهره ضوء عظيم. إذا بعد أن أكتشف الإنسان الدنس اكتشف في الوقت نفسه الإثارة، فمن دون البراز، بالمعنى الحرفيّ والمعنى المجازيّ للكلمة، لما كان الحبّ الجنسيّ كما نعرفه: تصحبه دقّات في القلب وعمى في الحواسّ.
في أساس المعتقدات الأوربية كلّها سواء كانت دينية أو سياسية، هناك دائما الفصل الأوّل من سفر التكوين، ويتفرّع منه أنّ العالم خلق كما يفترض به أن يكون، وأنّ الكائن طيّب، وأنّ التناسل أمر محمود، فلنسمِّ هذا الاعتقاد الجوهريّ "الوفاق التامّ مع الكائن"، إذا كانت كلمة براز يستعاض عنها حاليا في الكتب بنقط، فهذا ليس لأسباب أخلاقية. يجب ألا نذهب إلى حدّ الادّعاء بأنّ البراز شيء مناف للأخلاق فالخلاف مع البراز خلاف ميتافيزيقيّ. هناك أحدُ أمرين: إمّا أن البراز شيء مقبول ـ إذن لا تقفلوا على أنفسكم بالمفتاح وأنتم بالمراحيض ـ وإمّا أنّ الطريقة التي خلقنا بها تثير جدلا. ينتج عن ذلك أنّ الوفاق التامّ مع الكائن يتّخذ مثاله الأعلى عالما ينتفي منه البراز، ويتصرف كلّ واحد فيه وكأنّ البراز غير موجود: هذا المثال الجمال يدعى " الكيتش "
كيتش هي كلمة ألمانية ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر العاطفي، ثمّ انتشرت بعد ذلك في جميع اللغات، ولكنّ استعمالها بكثرة أزال دلالتها الميتافيزيقية الأصلية وهى: كلمة كيتش في الأساس نفي مطلق للبراز، وبالمعنى الحرفيّ كما بالمعنى المجازيّ "كيتش" تطرح جانبا كلّ ما هو غير مقبول في الوجود الإنساني."
وسنجد إذا حاولنا ربط الأمور بين ماهو ثقافيّ وما هو اقتصاديّ سلعيّ أنّ الكيتش هو الرديف الثقافي لمفهوم فتشية السلعة، بينما تسعى الثانية لتسويق المنتج تحت غطاء التصنيع المتقن المكتمل، تحاول الأولى إضفاء نفس الصفات على الحياة من إتقان واكتمال. وهذا يقودنا لما تحدّث عنه كونديرا عندما وصف محاولة الإنسان الدائمة "للوفاق التامّ" مع الذات عن طريق نفي كلّ ما يشوّه الصفات العلوية للإنسان، وبالعودة إلى حديثنا عن الطبقة الثرية المسيطرة على منافذ الصورة والثقافة الاستهلاكية المعمّمة في منطقتنا العربية، سنجد كم تحكم توجّهاتها الدوافع الغريزية التي ذكرنا بعضا منها سابقاً: (مال - جنس – سُلطة – جنون عظمة – حسد – ورغبة لا تنتهي في امتلاك أيّ شيء)، وهنا تكون المثل الفنية الحاضرة في حياة هذه الطبقة ذات بُعد طفوليّ كيتشي يسعى "للوفاق التام" مع الذات عن طريق إبعاد كل ما يعتبره اللاوعي عندها غير مقبول وجودياً، وغير أخلاقيّ، وفي الحقيقة ستقوم هذه الشريحة بإخفاء مجمل أسلوب حياتها لأنّها كما قلنا سابقاً لم تتجاوز الأسئلة الحضارية المركّبة عما هو أخلاقيّ، ويوجد عادة في حواضر المدن الكبرى التي تكون مصنعاً لأسئلة ثقافية وأخلاقية وفنية وسياسية، إلا أنّ ثقافة البترودولار تحاول أن تلغي بسطوتها المالية والسياسية والدينية هذا الحراك وتروّج للنقائض، لما هو دينيّ متطرّف غارق في هوس إلغاء الآخر من ناحية، ولما هو غرائزيّ من ناحية أخرى.
أمّا مفهومنا عن الإنسان فهو كائن تتنازعه قوى جذب بين الرغبات والقوانين الاجتماعية، تتنازعه قوى جذب بين تقاليد قديمة وتقاليد معاصرة، وتتنازعه ثقافة ريف وثقافة مدينة، وتتنازعه قوى بين ما هو مدني علماني وما هو وضعي وطائفي، بين الاحتفاء بالحبّ العذري أو الجسدي وثقافة الانغلاق والكره، ويتنازعه التطور المعقّد بين جدلية الوعي والمصلحة الشخصية الآنية، وبين غنى الثقافة وغنى المال، بين التردد والفعل، بين اليأس والبحث عن أمل في لقاء الحبيب أو الأصدقاء أو النجاح الذاتي، بين المعادلات الصعبة: هل أشتري كتاباً أم أدعو حبيبتي إلى العشاء، والجميل في هذا التجاذب أنه لن يخرج كاملاً ولن يكون في "وفاق تام" مع الذات، وهذا التجاذب هو ما يصنع الحضارة. لكن في حياة طبقة "الوفاق التام البترودولارية" تلغى هذه الأسئلة، وفي الحقيقة هي لم توجد يوماً، ستزور "مدنها" في قلب الصحراء، وستسير بك السيارة وقتاً طويلاً قبل أن تقابل أحداً يسير على قدميه، ستمشي ليلاً في "المول" وترى الأصنام والأزلام الجديدة التي تضيء ليل صحرائهم، سترى الكوكا كولا والمكدونالدز وربما تلقى الشاعر أدونيس التائه بين نوبل الشمال البارد، ونبوّته المعاصرة على بدو الفورد والبيرغر كينغ والكريدت كارد، وستلقى فتشية السلعة في أقوى أشكالها عندما ترى كل هذه الماركات الشهيرة اللامعة هكذا فجأة في الصحراء، كأنها خلقت من عدم ..
تضخّمت هذه المفاهيم لتدخل كلّ أنحاء حياتنا حتى أخفت تفاصيل حياتنا الحقيقة، وأصبح الإنسان المعاصر ساعياً بشكل عصابي ليحصل على:"الوفاق التامّ مع الكائن، وليتّخذ مثاله الأعلى عالما ينتفي منه البراز"، وبالأحرى ينتفي منه كلّ ما هو دنيويّ، لكن المفارقة أنه كلما أشرقت عوالم الاستهلاك على شاشاتنا ازداد التلوّث وبقايا السلع غير القابلة للتحلّل، وابتعدنا عن أيّ وفاق مع ذواتنا أو مع الكون الحقيقي.
احتفالا بحياتنا العادية ضد ثلاثية فتشية السلعة، الكيتش، والبترودولار