موضوع: تناوبات العطر الإثنين مايو 23, 2011 8:07 am
احتقر علماء الاجتماع ومن قبلهم الفلاسفة حاسّة الشّمّ مبجّلين حاسّتي البصر والسّمع عليها، واعتبروهما حاسّتين نبيلتين قادرتين على تجاوز الإحساس المحض وتحويله الى شيء. ولقد تعرّضت حاسّة الشّمّ، الشّهيرة بأنّها حيوانيّة وسجينة الفوريّة ومحرومة من إمكانية التّسامي، إلى عمليّة كبت متزايد مع التّطوّر الاجتماعيّ، مثلما يشهد على ذلك الملاحظون من بوفّون حتّى ماركيز. ولكنّ حاسّة الشّمّ تتمتّع غيابيّا بأهمّيّة سوسيولوجيّة لا يمكن إنكارها، بما أنّ التّنفّس يرغمنا على شمّ شتّى الرّوائح. من هنا اعتبر سيمّال Simmel أنّ المسألة الاجتماعيّة هي «مسألة أنف»، وليست فقط أيتيقيّة. ولإدراك التّأثيرات الاجتماعيّة لحاسّة الشّمّ ينبغي علينا التّمييز بين الرّائحة والعطر. فانعدام الثّقة في الرّائحة مرتبط بجنسه الّذي هو مصدر لسوء الظّنّ: إذ لا بدّ من اعتبارها نقيضا للعطر الّذي لا يبدو أنّه ينتمي إلى نفس النّوع، بل هو تحوّل للنّوع وفق جدليّة يؤكّد التّاريخ مشروعيتها الدّينيّة والاجتماعيّة. فإلى العطر تُنسب الطّراوة والكمال والصّفاء، أمّا الرّوائح فتنسب اليها هذه الفوضى الحاضنة للنّتانة والفساد والبهيميّة. إنّ هذه المقابلة تشي بكيفيّة إحساس الإنسان بجسده وبعلاقته مع المجتمع وبحالته. ويقوم المأثور الثّقافيّ بإعادة إنتاج هذا التّقسيم، فقد درَسَ الرّائحةَ في سياق جماليّة الحواسّ الخمس(أرسطو، روسّو، كانط…)، أمّا العطر فاستدعى منه تفكيرا في رقّة الأخلاق وفقا لمنظور أخلاقيّ (أفلاطون، أرسطو، سان أوغستان، مونتانيي Montaigne)، أو سوسيولوجيّ ( روسّو مرّة أخرى، سيمّال).
تاريخ جدليّة:
تنشئ حاسّة الشّمّ ردود أفعال متباينة برهنت عليها الآثار الأولى للثّقافة البشريّة. ولأنّ الإنسان أسير شمّه ومفتون عطور وقادر على تركيبها، فهو ميّال الى قلب البهيميّة المنكَرَة الى ممارسة بالمعنى التّالي: فقد صار العطر في أزمنة مبكّرة وسيلة لتكريم الآلهة من خلال دهن أحجار النّذر والتّماثيل. ولأنّهم معرّضون الى العفونة البدنيّة، يحرق النّاس الطّيوب على المذابح، وبذلك يصبح الدّخان المتصاعد حلزونيّا نحو الآلهة رمزا محسوسا لصلاتهم. وبصفة مبكّرة، اعتُبر استنشاق الأريج المعطّر بمثابة المشاركة الرّوحانيّة في ما هو مقدّس. إنّ جدليّة الرّائحة والعطر تمتدّ على مدى التّاريخ في سياق دينيّ أو لائكيّ، قديم أو حديث. فالعطر استعارة لنقاء أخلاقيّ ومادّيّ، أي الصّورة المقابلة للدّنس الّذي يسم كلّ ما يمثّل خطرا على الجسد والرّوح، تعفّنا كان أو نتانة أو موتا. وينسجم التّمييز بين الرّائحة والعطر مع المسافة الفاصلة بين الحيوانيّة والألوهيّة، بين قابليّة التّعفّن والنّضارة الدّائمة، بين قابليّة التّفسّخ والخلود. إن الدّور السّوسيولوجيّ للعطر غير المنفصل عن وظيفته الأنطولوجيّة يُفهَم انطلاقا من دور الرّائحة، أي من نقيضه. فمنذ العصور القديمة حتّى يومنا هذا، استُنفِر العطر لاشعوريّا ليتحدّى ما هو عضويّ، ليكون صورة أخرى لما هو غراميّ، ناقلا لما هو روحيّ.
دور أنطولوجيّ واجتماعيّ:
انّ اكتشاف مارسيل ديتيان Marcel Detienne لأسطورة الطِّيبِ في اليونان القديمة سيجدّد في نظرة علم الإناسة إليه، وذلك بإلحاق الجدليّة المذكورة به: فعندما وهب برومثيوس، أثناء تأسيسه لمبدأ التّضحية، الدّخان المعطّر للآلهة واللّحم للبشر، فإنّ التّقسيم بين الخلود والفناء لا يتمّ البتّة عن طريق الجسد: ذلك أنّ الدّخان أو طعام الآلهة، وهما جوهران مقدّسان وعطّران مخصّصان للآلهة، يحرّرانها من قيود جسديّة فيزيولوجيّة ويضمنان لها شبابا سرمديّا، في حين أنّ استهلاك البشر للّحوم القابلة للفساد يجعلهم منذورين لما هو مَعَويّ، للرّوائح الكريهة وللموت. إنّ قرابين العطور تعزّز الخلود الإلهيّ، بينما ترمز الرّوائح الجسديّة، الّتي لا يطمُسها إلاّ العطر والموعودة بالحظوة السّياديّة في القبور، إلى النّجاسة والموت. وتبرهن العبارة على صحّة التّفسير، ضحّى: thuein، وتقيم علاقة الاتّصال والانفصال بين الآلهة والبشر، وستتمّ تسمية البخور الّذي عرفته اليونان نحو القرن السّادس قبل الميلاد بـ .thus وستقوم روما بتدعيم هذا الدّور التّطهيريّ والتّجفيفيّ للطّيب وتعزو له وظيفة التّخليد: فعلى مزهريّات العطور الموضوعة في القبور أن تقاوم التّحلّل العفن والرّطوبة المعتمة.
ليست الإحالة الأكثر قِدَما الى استعمال المصريين للتّحنيط بأقلّ بيانا. فبالإضافة الى تنظيف أحشاء الجسم وتعطيره، يقيم "كتاب الموتى" تجانسا بين النّجاسة والنّتانة، وبين الطّهارة والعطر. فأوزيريس ن L’Osiris N يشنّع بنفس النّبرة بالبراز والآثام، ويعادل خلاص البشر منه التّطهير المعطّر، وقلبا للنّجاسة الكريهة الشّهوانيّة المعويّة الأخلاقيّة إلى طهارة بخوريّة، جسديّة وروحيّة في نفس الوقت. إنّ العطر هو ظهير الخزي، هو تجاوز للقذارة المتّصلة بالعفونة والانحلال والشّرّ. أمّا الرّائحة المشبوهة فهي لاحقة بما هو رطب وفاسد وبالعتمة، وتناقض الجفافَ واللاّانحلالَ والشّمسيَّ الموصولة جميعها بالطّيب.
طوال العصور القديمة، كانت الممارسات العلاجيّة والأخلاقيّة المحض تلتقي مع الاستخدام الدّينيّ للعطر، معمّقة بذلك التّقسيم الاجتماعيّ بسبب غلاء ثمن العطور. كان أبوقريط يعلّم العلاج بالعطور الّذي سيستمرّ في أوروبّا بعد أن نقله إليها جالينوس Galien حتّى القرن الثّامن عشر، وحتّى بعد ذلك بما أنّه بُعث من جديد في زمننا هذا. إنّ تدفّق الطّيب الّذي يشيعه دخان المجامر يطهّر الهواء، ويخلّصه من أجوائه الخانقة، ويقوم العطر المستنشَق «بتنشيط الدّماغ بشكل عجيب» (جون دي رينو Jean de Renou ، 1626، ذكره جورج فيغاريلّو Georges Vigarello ، 1985)، وعلى العكس من ذلك، فالنّتانة هي علامة على التّعفّن والوباء، (يحيل فعل نتّن empester الّذي يعود تاريخه الى سنة 1575 إلى الوباء كما الى النّتانة ).
فضلا عن ذلك، ساهم الاستعمال المتزايد للطّيب طوال العصور القديمة في إنشاء أدب نخبويّ ورقيق. إذ أسّس تقاسم العطور في المسرح أو في منزل المضيِّف لمنادمة شبيهة بمنادمة الخمر. فالعطر يهذّب ويوحّد، مثلما أنّ النّتانة تصدّ ورائحة الفقير تزعج وكأنّها تذكير بالتّعفّن القادم للجسد. لقد مزجت الحضارات الغابرة بين الاستعمالات الثّلاثة للعطر، الشّعائريّ والطّبّيّ والاجتماعيّ أو الجنسيّ، في محاكاة للتّخليد عبّر عن الإسراف فيها في روما بلينيوس سيكوندوس Pline l’Ancien ومرسياليوس Martial وتاسيتيوس Tacite وبيترونيوس Pétrone كلٌّ على طريقته. إنّ طاقات التّحوّل (تحوّلات أبيليوس Apulée Les Métamorphoses d’Apulée) والفتوّة (حكايات ليكوتواي Leucothoé، وإيدوثيوس Idothée، والطاووسPaon ، والعنقاء Phénix، وأمثولات أيسوبوس Ésope ، الخ.)، المعارة الى العطر باعتباره تورية عن الخلود الإلهيّ، تؤكّد وقعه الاجتماعيّ والثّقافيّ.
رهان ثيولوجيّ:
سيعزّز التّوحيد جدليّة الطّاهر والدّنِس تلك، المماثلة لجدليّة العطر والرّائحة، مستحضرا مرّة أخرى المجاز الّذي يقود من هشاشة الجسد نحو طهارة الرّوح: فالدّيانة اليهوديّة تقضي بالتّضحية بزيوت عبقة محدّدة شرعا (سفر الخروج 30، I ملوك، 10)، كما أنّ دور المنقذ الّذي لعبته هاجر Esther التي اصطفاها الله في الكتاب الحامل لاسمها ليس غريبا عن التّطهير العطريّ، فالنّقع بالعطور طوال السّنة يطهّر أحشاء جسد الملكة، بتحويل قابلّيته للتعفّن تحوّلا يفضي وفق مجاز كلاسيكيّ الى طهارة الرّوح : يظلّ العطر إذن استعارة للتّحوّل من الإنسانيّ الى الإلهيّ. تبيّن جدليّة الرّائحة والعطر أنّ الرّغبة في الخلود أو الخوف من الموت ليس على الإطلاق رفضا لجسديّة الإنسان،- وتشهد عقيدة نشور الأجساد في المسيحيّة على ذلك- ، بل هي رفض لفيزيولوجيّته، أي للبدن (ر. براغ R. Brague ). يستحسن المسيح طلاءه بزيت النّاردين المعطّر على يدي مريم البتول Marie de Béthanie لأنّها «إذ تسكب هذا العطر عليّ فإنّما تفعل ذلك لتخفيني عن العالم» (مارك، XXVI، 13). يقود الموت إلى تعفّن الجسد، لكنّ العطر يؤشّر إلى انبعاثه الآتي، أي إلى تغيّر صورته. لدى القدّيسين، «تفصح رائحة القداسة عن الصّحّة الجيّدة لروح توصّلت الى حمل الجسد الى معراجها الرّوحانيّ. إنّها تتوافق مع انعتاق من قيود الجسد» (أ. لي ڤـايري A. Le Guérer، 1998). كذلك لدى اليونانيين، كان الطّلاء بالزّيت المعطّر يحول دون تعفّن البدن ( الإلياذة، XXIII, XXIX ).
الحداثة ودوام استعارة الشّمّ:
منذ القرن السّابع عشر، كانت فرنسا في مواجهة الرّوائح الحضريّة، ودوْر العطور ثمّ تسلّط تلوّث الهواء وانتشار صناعة العطور المركّبة. فما هي إذن دلالة جدليّة الرّائحة والعطر في الأزمنة المعاصرة؟
لم يتمّ استعمال الإمبيق العربيّ (أداة كيميائيّة للتّقطير) للقرن الثّامن ميلادي، المطوّر عن الأمبيقوس اليونانيّ، في أوروبّا إلاّ في القرن الرّابع عشر وذلك لصنع الكحول المستعملة كثيرا في صناعة العطور. وتعزِّزُ رمزيّةُ النّار المقترنة برمزيّة الماء قوّة العطر التّطهيريّة دون نسيان الدّلاليّة المذكورة سابقا. فـالعطر المسمّى «ماء ملكة المجر» (1360) يمرّ لإحياء الشّباب، و"ماء شبّ اللّيل"، الّذي أُنتج سنة 1690 ونُقل من كولونيا بعد ذلك، يعقّم ويحصّن: فهو كما يقال يطهّر الأطعمة والتّنفّس والجسد والبشرة الى درجة أنّ عبيره الحامض hespéridée يصالح بين الأنفاس وبين النّظافة والحيويّة والنّقاوة، ولنذكّر هنا بأنّ اليونانيين كانوا يسمّون الحمضيات المستوردة من آسيا في القرن الثّالث قبل الميلاد Hespéridés، وذلك على اسم ثمرة الخلود الّتي تنبت في الفردوس Paradeisos الذي تحرسه الحوريات Hespérides.
لم يعرف القرن السّابع عشر الحضريّ دواء آخر للقذارة والعفونة غير العطر: ولأنّ الماء وحده عُزي إليه خطر الأوبئة المتفشّية بسبب الاستحمام العموميّ، فقد تمّ غلق الحمّامات بتحريض من أومبرواز بارايAmbroise Paré . لقد ظلّ العطر امتيازا لدى الأغنياء، ولأنّه علامة على التّفوّق، كان يُفضي الى تمثيل للجسد المتحوّل بفضل استعماله: فبلسم البنجوان le benjoin يعقّم ضدّ الرّوائح الكريهة الصّادرة عن الأمعاء ويحوّل إفرازات الأحشاء المزعجة الى جسمانيّة محبَّبة. وقد فرّق ليميري Lémery سنة 1709 بين ثلاثة عطور: النّبيل منها والبرجوازيّ والشّعبيّ المصنوع من الزّيت ومن مادّة السّوي suie السّوداء، وهذا ما يبرز الدّور الاجتماعيّ التّمييزيّ الّذي يؤدّيه العطر، كما يبرز الحاجة الضّروريّة إليه: ذلك أنّ الشّعور الرّهيب باستنشاق الرّوائح، وبالتّالي بالأجواء الخانقة، والقرف من أن تحاصرنا صداقة الآخرين الحميمة، يرتقي بالعطر الى مرتبة اللّقاح أو الدّواء، وقد نوّع ذلك العصر في وصفاته مازجا بين صناعة العطور والخيمياء والطّبخ السّحريّ.
إنّ القرن الثّامن عشر الّذي عوّض التّصوّر الدّيناميكيّ عن الجسد بالنّظرة الميكانيكيّة إليه يرفض استكانة جسد غارق في الشّذا. صحيح أنّ التّعارض بين الرّوائح والعطور يظلّ قائما لكنّه يغيّر من اختياراته، كاشفا عن القانون الاجتماعيّ المتعلّق بالرّائحة وبتمثّل الجسد. فالعطور المستمدّة من الزّهور تُساير "الأنوار" المتيّمة بما هو طبيعيّ يمزج بين النّظافة الجسديّة والنّظافة الأخلاقيّة. انّ صوفي Sophie، النّموذج المثاليّ لروسّو، «لم تكن تعرف من العطور سوى عطر الزّهور…ولكنّها تحتقر هذه النّظافة المبالغ فيها للجسد الّتي تدنّس الرّوح،…هذه الرّوح ليست نظيفة فقط بل أكثر من ذلك صافية» ( أميل Émile ). فالسّلوك الأخلاقيّ يفوح شذاه، والرّوح الصّافية في جسد بكر دائما ما ترسل رائحة زكيّة. تستمرّ إذن الرّائحة المقابلة للعطر في الإحالة على معنى النّجاسة، كما أنّ المسك المثَمَّن قديما، صار الآن مماثلا للإفراز الجسديّ، لأنّه إذ ينشر أريجا شهوانيّا يكفّ عن أن يكون عطرا ويتحوّل الى رائحة. لقد فتح جون نوال هالاّي Jean-Noël Hallé، العضو السّابق في شركة الطّبّ الملكيّة بباريس سنة 1794، منبرا للصّحّة العموميّة: إنّ التّجاور بين العصَب الشّمّيّ والدّماغ لأمر مزعج، كما أنّ الرّوائح المدنيّة المَرَضيّة أو القاتلة بالقوّة تستلزم حتّى الآن العلاج بالعطور. ولأنّ بعض العطور المختارة تُصلح الهواء، فهي تعالج الأمزجة، ويشهد تأثيرها في الجهاز التّنفّسيّ على وظيفتها الخيميائيّة: إنّها تقوم بوظيفة التّحويل، وتعزّز مماثلتها بالنّقاء الهويّة الاجتماعيّة للرّوائح: ذلك أنّ التّشهير بمجاملة القذارة، الخاصّة بالفقراء، تقوّي في فوبيا النّتانة عند الأغنياء.
إنّ التّقدّم الّذي أحرزه علم الصّحّة والتّصنيع والتّمدين، وكذلك ظهور البروليتاريا، قد كرّسا الانتقاء الاجتماعيّ من خلال العطور في القرن التّاسع عشر. فالأثرياء والفقراء كانوا في السّابق متساوين في العفونة الخارجيّة، بيد أنّ البرجوازيّة، الّتي تعيش منذ الآن في فضاء مشبع بالهواء ومنير، تقاوم ازدحام "البؤساء". ذلك أنّ «المستشفيات والسّجون وجميع الأمكنة المزدحمة والفوضويّة وكذلك الجمهور الفاسد ذو الرّوائح غير المتميّزة» يثير من الاشمئزاز أقلّ مّما تثيره «نتانة الفقير ونتانة مأواه» (ألان كوربان Alain Corbin، 1986 ). يكبر الهلع من العفونة، ويبدو كما لو أنّ البؤس، المأوى المفضَّل لوباء الكوليرا، هو المسؤول عنه وليس الضّحيّة: لقد صارت «رائحة الفقير» الشّائنة أداة للتّفرقة الاجتماعيّة. صارت الرّائحة الزّكيّة الّتي كانت في القديم تميّز الآلهة الإغريقيّة عن البشر حجّة طبقيّة: أصبح هناك خلط بين الرّائحة الكريهة والرّذيلة، بين السّلوك الأخلاقيّ والعطر، بل وبين العفونة والوباء السّاري، رغما عن باستور. هنا يوجد خلط بين السّبب والنّتيجة، ولكنّ الطّيب يظلّ هو ما يغيّر من شكل الجسد وما يسمح بنسيان الرّائحة الحيوانيّة. فالفرد غير المعطّر يثير نوعا من الكراهية الغامضة بما أنّه يذكّر الأغنياء مرهفيّ الإحساس بحيوانيتهم المشتركة الّتي ينبغي على العطور أن تنسيَهم إيّاها.
الشّمّ والأسلبة stylisation:
لقد اتّضح الصّراع بين الرّائحة والعطر وبرزت الفوارق بينهما مع ظهور صناعة العطور المركّبة الّتي أضحت في نهاية القرن التّاسع عشر فنّا: يدّعي المركّب الصّناعيّ أنّه أصيل وذلك بفضل أسلبة الرّائحة الشّخصيّة الّتي، إذ يتمّ السّموّ بها، تتصاعد في شكل عطر. إنّ هذه المرحلة الحاسمة تبيّن كم أنّ الحساسيّة تجاه الرّوائح منذ القرن الثّامن عشر تكشف عن تصوّر "للطّبيعة" خاصّ بكلّ عصر من العصور: فذوق عصر الأنوار الميّال للعطور الخفيفة كان يعبّر عن تصوّر "للطّبيعة" يتعارض نقاؤها الفاضل مع تعفّن المؤسّسات الاجتماعيّة والرّوائح البهيميّة. وفي نهاية القرن اللاّحق، تصوّرت الأنتلّيجنسيا، من بودلير Baudelaire حتّى ميربو Mirbeau السّاخطة على النّفاق البرجوازيّ، الطّبيعة مثيرة للحواسّ، عنيفة، قاتلة، ومفتونة بعطور مركّبة ومدوّخة كان العطر المسمّى جيكي Jicky لأيماي ڤـيرلان Aimé Guerlain (1889) مثالا لها.
في عهد السّريالية والدّادائيّة، طالب غبريال شانال Gabrielle Chanel بـ «عطر امرأة له رائحة امرأة»، فلا يمكن على الإطلاق استرجاع الرّائحة ولكنّ هذه تتحوّل عبر العطر الى تطهير نفسيّ لشهوانيّة منزاحة دون جسد. ولأنّ العطر قادر على التّعبير عن الخاصّية المميّزة للشّخصيّة، فهو لها بمثابة "التّهيئة الشّكليّة"، بمثابة الأسلوب: أي هذا التّعميم الّذي يتجاوز وحدانيّة الذّات ولكنّه يحافظ في الوقت نفسه على الفرديّة باعتبارها مركزا للتّألّق» (سيمّال، مشكلة الأسلوب). إنّ العطر يؤسلب (يعطي أسلوبا)، يشكّل، بالمعنى الأرسطيّ للكلمة: أي أنّه يعطي الفكرة الّتي تعلن بها الذّات عن نفسها لنفسها، يعطيها الرّوح eidos. لم يعد الأمر يتعلّق بإزالة الرّوائح بل بالتّميّز من خلال الرّائحة الّتي لم تعد تماثل الحيوانيّة بل الرّوح، بما أنّ العطر المبين عن أغوار الذّات يعكس جوهر الرّائحة: «أعرف رائحتها، لا أعني فقط العطور الّتي تفضّلها، كلاّ، بل رائحتها هي»، هكذا كتب جيل رومان Jules Romains. حين يكتسي العطر شكلا جماليّا، فهو يصنع أو يزيد من تألّق المرأة أو الرّجل، ويخلق «مجالا تتشابك فيه عناصر فيزيائيّة وروحيّة بطريقة غامضة » (Simmel, Excursus sur la parure)
الوظيفة السّوسيولوجيّة للرّائحة والعطر:
بمقتضى السّلطة القديمة لتحوّل الرّائحة من خلال العطر انهزم الجسد، لكنّ انهزامه لم يكن يخلو من مفارقة: ذلك أنّ العطر المشهور بأنّه ينمّ عن أغوار الذّات هو شيء اصطناعيّ، عبير غير ذاتيّ، نتاج يُشترى، إنّه يطمع في أن يُستخدَم ذاتيّا، يدّعي إغراء الذّات والآخرين. تمارس الأسلبة، الّتي ما عادت تُرى مليّا بل تُستنشَق، تأثيرا أعمق لأنّه تأثير فوريّ، يشهد عليه شكل جديد من الجدليّة بين البعد والقرب: فبمجرّد أن يُتَنشَّق الشّخص حتّى يدلّ عليه عطره، على الرّغم حتّى من أنّ جسده يظلّ بعيدا. إنّ العطر يحوّل الفاقدَ النّفوذ، الملحقَ بالشّمّ وبالرّائحة، إنّه يهيّج ويضيء، هكذا هو انبعاث مسيح جوهر الشّخص بالذّات، إذ يحثّ على نكران الفيزيولزجيا.
إذن، في مواجهة خاصّية الرّائحة المعادية للمجتمع تقف سلطة العطر المحقّقة للاشتراك الجماعيّ. ذلك أنّ عدم التّسامح مع الرّوائح- أكانت روائح خبيثة أو طيبا غريبا- يعتبر مخالفا للتّقارب بين البشر، وسيفرض تطوّر العادات نفورا متزايدا من تصاعد الرّوائح العضويّة (الرّوائح الجسديّة والغذائيّة جزء منها). سيعوّض فرط الحساسيّة النّقصَ المحتمل في قوّة حواسّنا، كما أنّ تقدّم القضاء على الرّوائح أبعد ما يكون عن تلبية حاجياتنا الحسّيّة المذعورة من التّلويث المتنامي، كما عبّر عن ذلك كانط: «يبدو أنّ الوساخة تثير التّقزّز لا لأنّها بغيضة… بل للرّائحة الكريهة الّتي يُفترض أنّها تخلّفها» (أنتروبولوجيا). بوسع العطر الشّخصيّ أن يفتن، في حين أنّ رائحة جمهور ما كريهة. لا ينبغي علينا حينئذ أن نتعجّب من أنّ عصرنا يقوّي من مقاومة العطر للرّائحة: فلقد تجدّد نشاط العلاج بالعطور، حسب المفردة الّتي اخترعها الكيميائيّ ر.م.ڤـاتفوسّاي R. M. Gattefossé سنة 1928، إذ تُعَطَّرُ الأماكنُ العموميّة، خصوصا منها المتاجر، من أجل خلق وهم بالمودّة والنّظافة. وببراءة أقلّ، تتكاثر العطور المثيرة والعبير المحقّق للسّكينة، وفي ذلك تعبير عن الاهتمام الجديد بسلطة حاسّة الشّمّ الّتي ستُعامَل من الآن فصاعدا على أنّها ناقلة للعيش المشترك في مجتمع تلوّثه فرديّة فقدت سحرها. ولتحقيق ذلك، يقترح العطرُ الآليّ cyber-parfum صيغة نموذجيّة بما أنّ الإبحار في العطور، عند مبتكري الحاسّة الراّبعة للأنترنيت، يسمح بـ"إبحار" أكثر شهوانيّة «يسترجع فيه ما هو إنسانيّ زمام الأمور مّما هو تقنيّ» (فرانس للاتّصالات تعطّر شبكة الأنترنيت، 2000).
بتعويضه لوظيفة الرّائحة المعادية للمجتمع، تكون للعطر مهمّة أنطولوجيّة واجتماعيّة في آن واحد: تصعيد ما هو عضويّ والذّعر الّذي يثيره، وكذلك تجنّب الإيحاء إليه في العلاقات الإنسانيّة. وكما كتب سيمّال مرّة أخرى، «يلعب العطر الاصطناعيّ دورا سوسيولوجيّا من خلال قيامه في مجال الشّمّ بتوليفة نوعيّة بين الغائيّة الفرديّة الأنانيّة من جهة والغائيّة الاجتماعيّة من جهة ثانية".
المقال بعنوان: Les alternatives du parfum منشور في le livre d’art Simili-type, septembre 2006.