مبارك يطلب العفو
اللباني
"مبارك يطلب العفو".. هذا هو العنوان الذي طلعت به علينا جريدة الشروق في تغطية خبرية تبث من خلالها خبراً مفاده أن مبارك وزوجته يرتبان للتنازل عن ثروتهما مقابل العفو عنهما أو محاكمتهما، مشيرة (الصحيفة) إلى أن أطرافاً داخلية وخارجية (عربية) تسعى لإتمام الأمر الذي سيترتب عليه استرجاع الأمال المنهوبة!!
وقد أوضحت الصحيفة أنه يتم إعداد كلمة يلقيها مبارك (قد تكون صوتية) عبر وسائل الإعلام مذكراً فيها الشعب المصري بأنه كان جندياً في القوات المسلحة وصاحب تاريخ عسكري، وأن الكاتب الصحفي الذي كتب الكلمة (العاطفية) التي أذيعت في أول فبراير وتعاطف معها الكثير من الشعب المصري هو من يعمل على صياغة الكلمة التي سيطلب فيها العفو!!
كعادته دائماً.. يأتي مبارك في وقت غير مناسب على الإطلاق، وفي الوقت الذي تضرب الفتنة الطائفية البلاد، بناء على تعليمات وتوجيهات منه ومن أذنابه، وفي الوقت الذي تتعرض فيه البلاد لضائقة اقتصادية بدأت تلوح بوادرها ليقدم مبادرة العفو المزعومة، كأنه يقول للشعب المصري مرة أخرى ها أنا ذا سوف آتي لأنقذكم من ورطتكم التي أوقعت أنفسكم فيها عندما فكرتم في عزلي عن الحكم، وسوف أقدم لكم من "ثروتي" و"ثروة زوجتي" ما يعينكم على حل معضلاتكم الاقتصادية، وإما الموافقة أو استمرار حالة الانفلات الأمني والفتنة التي تعم البلاد!!
في تحليل هذا الخبر.. لو نظرنا لنقطة واحدة ووحيدة صدق فيها مبارك طوال عمره في الحكم (30عاماً) لوجدنا أنها النقطة المتصلة بتحذيره من التنازل أثناء الثورة عن الحكم أو وقوع البلاد في الفوضى، فهو التحذير الذي سعى لتحقيقه على أرض الواقع، هو وتابعوه، من خلال مجموعة من التحركات الإجرامية التي تعمل على إجهاض الثورة، وها هو مسلسل "الصدق المباركي" مستمر في تحقيق الهدف والغاية التي يسعى إليها، ويأتي هذا الطلب في وقت يستطيع من خلاله أن يثير الفتنة والبلبلة بين أطياف الشعب المصري، معتمداً، مرة أخرى، على الجانب العاطفي والتذكير بحرب أكتوبر وكبره في السن، إلى ما هنالك من جوانب عاطفية يسعى للاستفادة منها بأحط الأساليب.
لو اعتقد مبارك أو اعتقد ناصحوه أو اعتقد "كاتبه العاطفي" الذي يصوغ خطبه أن الجانب العاطفي لا زال مجدياً فقد أخطؤوا جميعاً في تقدير الموقف، وهو من الغباء الذي يتأكد كل يوم بما يجعله يمتلك أكبر مخزون إستراتيجي من الغباء على مستوى الحكام عبر التاريخ.
رصيد المخزون العاطفي الذي يراهن عليه مبارك نفد تماماً ولم يعد فيه ما يكفي للعفو أو التسامح مع مبارك أو حتى مع كل ما يتصل بمبارك، حتى وإن كانت قطته!! وأتعجب: كيف يصل الغباء بالإنسان إلى هذه المستويات التي تتكشف كل يوم عن أبعاد للغباء لا مثيل لها؟!
قيل إنه سوف يضمن في خطابه أن "الأخطاء" التي وقعت أثناء حكمه لم تكن مقصودة، وكانت بناء على استشارات غير موفقة من مستشاريه أو بناء على معلومات مغلوطة!! ما هذا الاستهتار بعقول المصريين الذي يصر عليه؟! يبدو أن خطبة زين العابدين التي قال فيها "الآن فهمتكم" والتي فاتت مبارك أن يقول مثلها أثناء الأزمة جاء الآن لكي يقولها!! وبناء على ذلك نستطيع أن ندرك الفاصل الزمني لمبارك وطريقة استيعابه للأحداث، فيبدو أن مبارك إلى الآن يعتقد أننا نتفاوض على استمرار حكمه أو تنازله عن الحكم، ويعتقد أنه لا زال يمسك بخيوط اللعبة السياسية، وبناء على هذا الفهم المتأخر لمجريات الأحداث يعتقد أن كلمة من هذا النوع يمكن أن تكون لها نتيجة إيجابية ليهرب السارق بما سرق!!
في آخر حديث لمحمد حسنين هيكل تحدث عن تقديرات معلوماتية مؤكدة تستند على صندوق النقد وعلى تقارير المخابرات الأمريكية أن ثروة مبارك بين 9 و11 مليار دولار.. فهل يا ترى سوف يرجع هذا المبلغ إلى الشعب المصري؟ أم سيأخذ العفو الذي يسعى إليه ويمنحنا مبلغاً وقدره عدة ملايين مصرية فقط لاغير!! وبعد ذلك يفاوض مرة أخرى على العفو عن أولاده بمبلغ آخر، ثم يفاوض على عودته أو عودة جمال وتوليه الرئاسة في مقابل بعض الأموال (فالرصيد كبير ويسمح بالكثير من المفاوضات)؟!
أما النقطة الأهم.. ما هي الثروة التي يريد أن يتنازل عنها هو وزوجته؟ ما حجمها؟ أين توجد؟ ما تفاصيل مكوناتها؟.. من ينوي فعلاً أن يطلب العفو عن الجرائم المالية وسرقة الشعب لابد أن يبدأ بتقديم بيانات "صادقة" من هذا النوع، لكن يبدو أن كلمة صادقة ليست موجودة في قاموس مبارك هو وأسرته!! وما هي إلا مجرد لعبة من ألاعيبه التي ما زال بارعاً فيها.
سنفترض أن مبارك كشف عن كل أرصدته وأرصدة أسرته ووضعها في انتظار موافقة الشعب المصري على العفو عنه، وسنفترض أن القضاء المصري سيضرب عرض الحائط بكل القيم والأعراف القانونية وأن الشعب المصري سيخرج في مظاهرة مليونية مطالباً بالعفو عنه!! ماذا عن دماء الشهداء الذين أعطى أوامر مباشرة بقتلهم؟ ماذا عن ضحايا عبارة السلام98 الذين فاق عددهم 1150 شهيداً؟ ماذا عن ضحايا قطار الصعيد الذين تجاوز عددهم الـ 1300 شهيد؟ ماذا عن ضحايا مرض الالتهاب الكبدي الوبائي الذين يتجاوزون الملايين؟ ماذا عن أحداث الفتنة الطائفية التي زرعها وظل يتلاعب بها طوال سنوات حكمه؟ ماذا عن مئات الآلاف من أطفال الشوارع المشردين؟ ماذا عن الملايين التي تعيش في العشوائيات حياة غير إنسانية؟ ماذا عن المليارات التي أهدرت على مشروعات خاسرة مثل توشكى وغيرها ووزعت على الأحباب والمحاسيب دون أن تعود بفوائد ملموسة على الشعب المصري؟ ماذا عن تزوير التاريخ والترويج للضربة الجوية التي قادها من مكتبه كقائد للقوات الجوية وكأن كل من ضحوا بأرواحهم على الأرض ليس لدمائهم ثمن يُذكر؟ ماذا عن نهب خيرات وثروات الشعب في أكبر عملية نهب منظم عبر التاريخ في عملية "الخصخصة" المشبوهة؟ ماذا عن الأربعين مليوناً الذين يعيشون تحت خط الفقر بحسب التقارير الأممية؟
إذا كان الكاتب الصحفي (العاطفي) الذي كتب الكلمة (العاطفية) قبل ذلك هو الذي سيكتب الكلمة (العاطفية) الجديدة فلابد أن نتذكر أن الكلمة العاطفية الأولى في أول فبراير كانت إشارة البدء لموقعة الجمال والحمير والبغال، فيا تُرى لو ألقى مبارك كلمته (العاطفية) الجديدة ستكون إشارة البدء لماذا؟ أعتقد أن مبارك لو تمكن من أن تكون إشارة البدء في إحراق مصر كلها فلن يتأخر عن فعل ذلك مطلقاً!!!