موضوع: انهيار الدائرة المكسورة الأربعاء يناير 22, 2014 12:00 am
يملك هذا الفيلم فيوضاً من العواطف. بكائية مصنوعة بإحكام، تحتفي بمصائر بشرية ذات أقدار سوداء، تكمن قوّتها الحياتية والذاتية في لوعات الحب. حكاية عادية لأناس هذه الأرض. يلتقون، وتهفو قلوبهم إلى بعضهم البعض بعد إعجاب. تشتعل رغباتهم وأحاسيسهم، وتتفجّر قصص العشق والحنوّ، لتنتهي لاحقاً بخواتم واستقرار وبيوت سلوى. هذا هو خيط المصير الذي يربط الناس بعضهم إلى البعض الآخر، وتبقى البشرية في دائرة محكمة من النشوء والإرتقاء، ولاحقاً الفناء. تُرى، ما الذي يكسر حدودها، ويعجّل بتفتّتها وتشظّيها وموتها؟ الجواب: أحكام كونية وسنن الربّ. في الفيلم الرابع للمخرج البلجيكي فيليكس فان خرونينغن، تكون الحياة في أعلى درجات تراتباتها. شاب موسيقي حالم يلتقي فتاة حيوية وقوية الشخصية، تعيش يومها بفورة من الطاقة والعناد، وتعمل في محل للوشوم، علامتها متوافرة على مساحات مختلفة من جسدها. لا تلوي على أمر من دون أن تناله، ومنه قلب ديدييه ، الذي يجد فيها معنى حقيقياً لإبداعه الموسيقي. ينخرطان في قصّة حبّ عاصف، يغلب عليها التملّك المطلق بين حبيبين لا يرغبان في الانفصال لحظة واحدة. في العرف العام، إنهما "روح واحدة بجسدين منفصلين".
ككل حكايات الحب، يتزوّج البطل الشابة إليس ، ويخلّفا الصبية مابييل. بيد أن القدر سيكون لهما في المرصاد: بعد أن يرمّم الأب بيتاً في مزرعة كعشّ لهم، ويرتّبوا حياة زاخرة بالمودات والسعادة، تقع الأخيرة ضحية المرض الخبيث، وجولات العلاج الكيماوي، لتنقلب عوالمهم رأساً على عقب. اخترق الموت "الدائرة العائلية" التي بدت محكمة إلى حد بعيد. قبل هذا، يضخّ المخرج فان خرونينغن نصّه بوفرة موسيقية، ليبدو كأنه فيلماً مصنوعاً من الغناء والعزف وجلسات طرب. غير أن تراكم النغم فيه، خصوصاً بعد انضمام البطلة إلى فرقة ديدييه الغنائية، واكتمال قوس مشاركتها المطلقة في حياته، يمهّد لمصيبتهما المقبلة. فواحدة من معاني الدائرة أنها الحظ العاثر والشر العظيم، "وعلى الباغي تدور الدوائر" كما قال ذات مرّة شاعر عربي.
نص الكاتب هيلدنبرغ، وهو في الأصل مسرحية له عُرضت بنجاح منقطع النظير في موطنه، مؤلّف من طبقات ملوّنة درامياً، تنتقل برفقة الأغاني من حبور العلاقة الوليدة إلى إيقاع العشرة السريعة، قبل أن تثقل بالحزن وكربه، وتنتهي بالشخصيات ضمن دوامة حصار من قدر محتوم. يغرق مُشاهد الفيلم البليغ في تعاطف آسر، ذلك أن الأواصر البشرية تنثال على الشاشة بصنعة سينمائية لا تعرف الملل، ولا تُفخّم العذابات أو تفتعل تراجيدية شخصياتها وهزيمتها. من هنا، يلاحظ المُشاهد النبيه أن صوغ المخرج فان خرونينغن اعتمد بشكل كبير على حياكة ميلودرامية، تنتقل بين أزمان وتخلّطها كلّها، وهي إشارة ذكية إلى أن سير حياة بطليه لا يخضع إلى منطقنا العقلي وتنسيقه للحوادث بشكل تقليدي. تمتزج المتعة بدوافع المتفرّج سعياً إلى مشاركة وجدانية مطلقة مع مأساة هذه العائلة المنكوبة. لن يتعجّب المرء من مشاهدة بعض الدموع وهي تنسكب على خدود القابعين في ظلمة الصالة، إذ أن فواجع الدائرة اللعينة لن تترك مرارة في القلوب من دون تحكّم، مهما كان الشخص الذي يشاهد "انهيار الدائرة المكسورة" قويّ الإرادة والعزم.