ولد كلاوزفيتز عام 1780م، في بورغ، عمل مدرسا للجيش البروسي، انتسب إلى الأكاديمية العسكرية في برلين عام 1801م، عمل مرافقا عسكريا للأمير أوغست البروسي، فجرح وأسر. ساهم في كل المعارك التي كانت ضد نابليون. ورفض استسلام بلاده للفرنسيين. وساهم في تعديل الخطة الروسية للدفاع عن البلاد أمام الغزو النابليوني... مات متأثرا بالكوليرا في "براسلاو"، عام 1831م.
هناك ترجمات لكتابه تراوحت بين "في الحرب"، و"عن الحرب" مثل الترجمة والتحقيق لـ "سليم الإمامي".
شرع في كتابة كتاب "في الحرب" منذ سن 24، إنه مشروع عمر، ضمنه تأملاته وملاحظاته من خلال التنظير والممارسة، وبدل جهدا كبيرا في دراسة وتحليل مختلف جوانب الحرب. ولقد نشر الكتاب أول مرة سنة 1832م بالألمانية.
ورغم أنه يشير لعدم ضلوعه في الفلسفة، فإنه مع ذلك يقدم لنا فلسفة عن الحرب.
العنوان في حد ذاته ثورة في وقته، لأنه تجاوز مفهوم العناوين التقليدية كـ"فن الحرب"،بل الحرب أصبحت أكثر من مجرد فن، لأنها أكثر ارتباطا بالحياة الاجتماعية والسياسية بل ونتيجة لها وتتأثر مباشرة بها.
والكتاب غني بالأمور التقنية والمباشرة حول المؤسسة العسكرية نفسها لكننا نبتعد من الانسياق إليها متوخين الحفاظ على مركزية التفكير في الأفكار الأساسية والعامة عن فكرة كلاوزفيتز عن الحرب كظاهرة وكعلم وكتصور وكفلسفة. ويبدو أن كلاوزفيتز كان يستمتع بالمعركة وبالحرب لذلك كان مبدعا.
صحيح أن المعلومات تتقادم كما هو معلوم، لكن الإضافة التي أضافها للفكر العسكري كانت مهمة، فلسفة جديدة للحرب.
وحين تقرأه يبدو لك وكأنه كتاب تعليمات عسكرية حول مختلف جوانب الحرب ومفاهيمها الأساسية.
وعموما هناك مفاتيح رئيسية لفهم فكر كلاوزفيتز العسكري، ومهمتنا هي البحث في الخيط الناظم لفكر كلاوزفيتز الحربي. وذلك بالضبط ما سنحاوله في هذا الموضوع.
تعريف كلاوزفيتز وتصوره للحرب:
أول شيء يسجله كلاوزفيتز هو إقراره بتشابك الحرب مع كثير من القطاعات الأخرى (في حديثه في الفصل الأول (تقسيم الحرب) من القسم الثاني (نظرية الحرب).(ص ص 140- 147) وهي مسألة غاية في الأهمية ستنبني عليها باقي عناصر أطروحته حول الحرب.
الحرب بين الفن والعلم؟
يضل الفصل الأول رغم صغره من أهم فصول الكتاب لأنه يحمل تعريفا مباشرا وأصيلا للحرب.
ففي تعريفه للحرب يقول "وبدلا من مقارنتها بأي فن من الفنون، مقارنتها بالتجارة. وهي أكثر شبها بالسياسة، إذ هي الرحم الذي تنمو فيه الحرب.(ص 168)
ويقول أيضا "الحرب ليست فنا ولا علما هي أكثر من ذلك هي شكل من أشكال الوجود الاجتماعي "إنها نزاع بين المصالح الكبرى يسويه الدم.. ومن الأفضل بدلا من مقارنتها بالتجارة التي هي أيضا نزاع بين المصالح والنشاطات البشرية. وهي أكثر شبها بالسياسة التي تعتبر بدورها، ولو بجزء منها على الأقل، نوعا من التجارة على مستوى عال. إن السياسة هي الرحم الذي تنمو فيه الحرب، وتختفي فيه الملامح التي تكونت بصورة أولية، كما تختفي خصائص المخلوقات الحية في أجنتها..."(ص 167)
فالحرب عملية حرة متحررة، هي فكر حر ومواهب عقلية أكثر منه قوانين ومبادئ ونظريات جامدة محفوظة ومعمول بها إنها إطار حي يحتاج لفكر حي ومتجدد ومتغير حسب الزمان والمكان والظروف وهو ما حاول المؤلف توضيحه في أجزاء الكتاب يقول المؤلف "فهل هناك قوانين عامة يخضع لها نزاع العنصر الحي الذي نراه يتكون ويجد حلوله في الحرب، وهل تتيح هذه القوانين قاعدة مفيدة للسلوك في العمل؟ إن هذا الكتاب سيحاول فحص هذا السؤال في بعض أجزائه."(ص 168)
الحرب مسألة عنف؟
لقد سخر كلاوزفيتز من النظرية القائلة "بالحرب دون إهراق للدماء" قائلا "لا تحدثونا عن قادة يتنصرون دون سفك دماء". فالحرب صراع أفراد وأنانيات وإرادات، إنها في تفسير كلاوزفيتز مسألة حتمية.
وعامل الشراسة والعدوانية والعنف يبقى عاملا مهما جدا. فالعنف هو القاسم المشترك لكل حرب هو كل شيء وهو الحرب نفسها إن افتقد هذا العنصر اختل مفهوم الحرب.(ص 93)
وإرادة العدو هي صراع إرادات. حتى أن إنشاء القوات المسلحة مجرد وسيلة واستخدامها يبقى هو الهدف. بل هو يرثى لحال النفوس الطيبة، ويشير إلى ضرورة إهراق الدم. لأن الحرب قضية خطيرة، والأخطاء الناتجة عن طيبة النفس هي أسوأ الأخطاء.(ص 75)
إذن الحرب في تعريفها الأوضح هي عمل من أعمال العنف.(ص 77) والحرب لها علاقة وطيدة بالنية العدوانية في الطبيعة البشرية.(ص 76)
وليس لدى كلاوزفيتز منزلة بين المنزلتين إذ على القوات المسلحة إما "أن تحمي الدولة أو تحتل بلاد العدو". ليس هناك مكان للسلم.(ص 389) ليس هناك سوى وسيلة هي "القتال".(ص 99)
حتى أن الهدنة في الحرب ليس إنهاء للحرب وما هي إلا فرصة لانتظار لحظة أكثر ملائمة للحرب(العنف).(ص 84) ولا تتم إلا من أجل حساب الاحتمالات.(ص 87) وبحساب الاحتمالات تستمد الحرب واقعيتها.(ص 81)
الحرب المطلقة والحرب الحقيقية؟
في تعريفه للحرب يقول "إننا لن نحاول البدء في تعريف الحرب تعريفا متحذلقا وثقيلا. ولنكتف بروح هذه الحرب أي لنكتف بالمبارزة، فالحرب ليست شيئا مختلفا عن المبارزة على نطاق واسع. وإذا ما أردنا أن نجمع في مفهوم واحد النزاعات الخاصة المتعددة التي تتألف الحرب منها، يحسن بأن نفكر في اثنين من المتقاتلين يحاول كل منهما بقوته البدنية إخضاع خصمه لإرادته. إنه هدفه الفوري المباشر هو إلقاء خصمه أرضا ليجعله عاجزا عن أي مقاومة. فالحرب إذن، وبهذا الشكل، عمل من أعمال العنف، يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا."(ص 74) فالحرب بهذا المعنى هي صراع للإرادات، والإرادات تبقى نفسية ومتقلبة بين الضعف والقوة.
ثم إن "الاحتكاك" في الحرب يفضح مشاكل لوجستية، "تغير الحرب كأرضية وكمعطيات"،(ص152) نقص المعلومات، أحوال جوية غير مناسبة، عدم الانضباط، التردد والخوف، ضعف التنظيم، "الشك" (ص 118) كلها عوامل تجعل الحرب تختلف في الواقع والأرض عن الخطط الموضوعة على الورق. وتقترب بالحرب من الحرب الحقيقية وتبعدها عن منطق الحرب المطلقة. فالعوامل الغير مضمونة والظروف غير المتوقعة تقوم بوسم الحرب بسمتها "النسبية" وتبعدها عن الإطلاقية. هناك تأكيد إذن على مدى الأرضية المتحركة للحرب.( ص 140 و ص 103) وتأثير الظروف الخاصة في الحرب.(ص 104)
ثم إن الحرب مع حساب الاحتمالات، و مع الهدن المتكررة تجعلها على أن لا تكون حربا "مطلقة" وتقربها باستمرار إلى حساب الاحتمالات.(ص 87)
وبالجملة فالعناصر التي تجعل من الحرب حربا حقيقية وليست مطلقة: العقل، المصادفة، الإستراتيجية، العواطف... والثالوث المتحكم في الحرب عموما هو: العنف، لعبة الصدفة والاحتمالات، الحرب كتابع للسياسة وأداة لها.(ص 91) ونسبية هذه العناصر تجعل من الحرب احتمالية نسبية. لذلك فالباب مفتوح لشجاعة وحسن تقدير وتدبير القائد حسب ما تفترضه ظروف الحرب.
وينبهنا كلاوزفيتز إلى مسألة ضرورية وهي أنه خلال دراستنا للحرب يجب دراسة الجزء والكل معا.(ص 74) لنستطيع الخروج بتعريف واقعي عن الحرب.
الكلمات المفتاح في فكر كلاوزفيتز الحربي:
ارتباط الحرب بالسياسة؟
من العناصر الرئيسية لتعريف كلاوزفيتز للحرب هو ربطها بالسياسة كما أسلفنا، فإذا كانت الحرب وسيلة فالسياسة تبقى هي الغاية من الحرب ومن توظيف الحرب كآلية دبلوماسية إكراهية للعدو. إذن فالحرب أداة للسياسة.(ص 475) فالسياسة تتحكم في الحرب والحرب توظف بعد النصر سياسيا.(ص271) والأمثلة كثيرة من التاريخ تثبت نظرية كلاوزفيتز هذه (حرب تطوان ومعركة إيسلي بالنسبة للمغرب، وما تبعهما من ديون وتنازلات. حرب السويس و تبذير الخديويين والديون على مصر. الخسائر العسكرية العثمانية وإتباعها بمعاهدات مذلة من طرف الغرب...) حتى أن السلم يفرض لكن بالخروج قويا وليس ضعيفا منتصرا وليس منهزما.
يبدو جليا مدى تركيز كلاوزفيتز على مسألة تأثير الهدف السياسي في الهدف العسكري.(ص 473) من خلال النموذج الذي يعطيه لنا في الصفحة 95 لمدى ارتباط السياسة الوثيق بالحرب.(ص 95)
البعد النفسي والقوى المعنوية؟
لقد أضفى المؤلف الجوانب الإنسانية على الحرب في تفسيره لها وهي من مميزات طرحه للمسألة العسكرية. وركز كثيرا على الدور الذي تلعبه العاطفة في الحرب. وكدليل على القيمة الكبيرة التي منحها كلاوزفيتز لعنصر القيم المعنوية أنه ناقشها في فصل حول "الإستراتيجية". مع العلم أن الإستراتيجية في الحرب هي كل شيء تقريبا.
تحدث بإسهاب عن دور القوى المعنوية،(ص ص 178- 190) والعوامل النفسية في إرخاء ضلالها على مفهوم وعمق الحرب، فجاء التركيز على هذا العامل على طول صفحات الكتاب.
مبينا أن الخسائر المعنوية هي السبب الرئيس في الوصول إلى النتيجة الحاسمة.(ص ص236-237) مع التأكيد على العنصر المعنوي في خسارة الحرب ودورها الكبير في الرغبة في الاشتباك أم لا إذ أن فقدان الروح المعنوية هي "فقدان النظام والإقدام والثقة والتلاحم والتنظيم بين قواته" وفقدان المعنويات هذه هو الذي يجعله يطرح التساؤل حول الاستمرار في الاشتباك أم عدمه وليس خسارة للرجال والخيول والمدافع.(ص 236) وخلال الاشتباك تضل القوى المعنوية العامل الحاسم للقرارات.(ص 236)
حيث يضل الجانب المعنوي في الاشتباك من أهم العناصر المتحكمة في نتائج الحرب.(ص 237)
كما تحدث عن الروح المعنوية في الجيش.(ص 183) وعن المحركات الداخلية لقائد الجيش، وعن البعد النفسي في الحرب.(ص 18) وعن دور العناصر المعنوية والفكرية في الحرب لدى الفرد والقائد على السواء.(ص 153-158)
وبينما تبقى النظرية خاصة بوضع قوانين، في المقابل تعتبر الشجاعة والحزم مبدءان أساسيان في الحرب.(ص 88) إن الأسباب المعنوية تتقاسم الدور مع الأسباب المادية.(ص 179) وبالتالي تحتل القيم المعنوية و"الإرادة"(ص79)، مركزا أساسيا في لعبة الحرب.(ص 178)
وتظل القيم المعنوية خارجة عن الحسبان النظري لكنها تحس وتلاحظ. ومعظم كتب الحرب لا تذكر الكثير عن القيم المعنوية، بخلاف كلاوزفيتز الذي أفرد لها حيزا مهما في كتابه عن الحرب.
البعد الفكري؟
بعد آخر أعطاه كلاوزفيتز قيمته في عملية الحرب، وتجلى ذلك في إعطاءه فسحة كبيرة لتحليل دور العوامل الفكرية في الحرب (ص 153). حيث يصرح أنه ينبغي أن تصبح المعرفة إرادة.(ص 164) لاعتبار دور المعادلة الفكرية المعنوية وازنة في الحرب.(ص152-153)
نفس الأمر بالنسبة لدور المعلومة في الحرب. (ص 130-131) كما وعدم معرفة الأخ من العدو معرفة كاملة، يجعلها (الحرب) نسبية احتمالية وغير مطلقة.(ص 86)
إنها حرب فكرية معلوماتية، حتى أن أهمية الفكر كقيمة رفيعة في العمل العسكري قد تتجاوز أهميتها كل العناصر الأخرى.
وكدليل على هذه القيمة الأثيرة يقول كلاوزفيتز في الجزء المتعلق بنظرية الحرب يقول "ويل للنظرية التي تعاكس الفكر!" إنها ستحاول إذلال نفسها كي تتلافى هذا التناقض وكلما مرغت نفسها في الذل، طردها الازدراء والسخرية من الحياة الحقيقية.(ص 152) وما حساب الاحتمالات إلا تأكيد على أن الحرب عمل فكري.(ص86)
البعد الاجتماعي؟
يؤكد كلاوزفيتز على دور الشعب كعنصر وازن في المعادلة الحربية، فالحرب تخص الوجود الاجتماعي.(ص 167)
كما أن هناك أسباب اجتماعية للحروب بسبب الاختلافات بين المجموعات البشرية ثقافيا وفكريا ودينيا.(ص 82)
وعموما فقد كان الجيش من بين أول المؤسسات التي استوعبت الشعوب للانخراط في العمل الوطني، وتبلور الشعور الوطني ككيان جماعي ومقدس. خصوصا وأن هذه الفترة عرفت ما يسمى الحرب الشعبية والتي أصبحت فيها علاقة وطيدة بين الجيش والمواطن.(ص 182) فالشعب الذي دخل الجيوش الوطنية أصبح وطنيا! مشاركا مع النبلاء، يصنع الحدث وليس منفعلا فقط.
وكأنه تنبأ بأن العصر العسكري القادم هو عصر الحروب الدفاعية الشعبية وحروب الخنادق، وحروب العصابات وحروب الاستنزاف والمعتمدة على الأرض والشعب والدفاع.
أهمية المعطيات الكارزماتية للقائد؟
أكد كلاوزفيتز على أهمية التكوين الفكري لدى القائد، وضرورة تسلحه بثقافة سياسية، وضرورة اطلاعه على الوضع العام، ومعرفة توجهات مرؤوسيه السياسية والفكرية والحربية.
ولقد زكى هذا المعطى انطلاقا من نسبية الحرب كلعبة وكأرضية متحركة، لا تلعب فيها النظرية أكثر من إنارة طريق العسكري وتسهيل خطواته.(ص 159) إذ النظرية في مجملها ملاحظة وليست عقيدة، وهي مجرد طريقة عمل.(ص 158) ويبقى للشعور الوطني ومواهب القائد الحربية.(ص 180) الكلمة الفصل في الموضوع، فالقائد الجيد الموهوب العبقري أفضل من النظري المثقف ثقافة عسكرية.(ص 163)
الصدفة والشك؟
كذلك عنصر الصدفة، يجعل الحرب لعبة، ورغم كل حساب للاحتمالات وتضييق عنصر الصدفة. فالصدفة تلعب دورها ويبقى لها هامشها المؤثر(الحظ والحدث العارض).(ص87)
فالحرب يقول كلاوزفيتز مجال واضح واسع للصدفة.(ص 109) إنه الشك بدل اليقين يتحكم في الحرب، لأن الحرب عمل بشري تدخل في مملكة الصدفة والحظ، ومملكة الإمكانات.(ص 88)
فالصدفة والشجاعة عاملين ذاتيين خارجيين عن حساب الاحتمالات وعن المطلق. ومن هذا المنطلق تحكم الذاتي وتأثيره في الموضوعي. بل وتجعل الإمكانات،الاحتمالات، الحظوظ من الحرب لعبة ومقامرة.(ص 87-88)
الحسم؟
كلاوزفيتز يعطي لمسألة الحسم (أو نقطة الذروة)، الأهمية الكبرى أما الهجوم والدفاع والقطبية وباقي الأمور فهي داخلة في الحرب كأمور عادية.(ص 85)
وبالنسبة للاشتباك فهو الحرب نفسها يركز على هذا المعطى بشكل كبير، وكذلك نقطة الحسم أو الذروة.
لكننا نتساءل بالمقابل بخصوص تأكيد كلاوزفيتز المستمر عن دور التفوق العددي في الحروب الحديثة في حسم المعركة،(ص290) فهل كان سيستمر في نفس الرأي لو عاش إلى أواخر القرن 20؟ حيث أساليب وتقنيات الحرب المادية تطورت على حساب الأعداد البشرية.
الدفاع؟
في تفسيره لميزات الدفاع محاولا إقناعنا نجد كلاوزفيتز يقول؛ "فما هو غرض الدفاع؟ إنه المحافظة. فالمحافظة على الشيء أسهل من اكتسابه، وينتج عن ذلك أن الدفاع أسهل من الهجوم، إذا افترضنا أن الوسائل متساوية لدى الطرفين. ولكن من أين تأتي هذه السهولة الكبرى في المحافظة والحماية؟ إنها تأتي من أن الوقت الذي ينقضي بدون أن يستفيد المهاجم منه، يتحول لصالح المدافع الذي يحصد الأرض التي لم يزرعها، ويعتبر كل تأجيل للهجوم، بسبب الخوف أو الغطرسة أو أية آراء خاطئة، ميزة تمنح للمدافع".(ص 327)
لقد سلب الهجوم من كل ميزاته فأظهره بمنظر المنطق الضعيف والغير مجدي أمام عظمة وأهمية وفعالية الدفاع. بل ويؤكد أن العمل الدفاعي أكثر قوة من الشكل الهجومي.(ص 327)
وهذا عكس تعطشه للعنف وللقتال في تعريفه لطبيعة الحرب كان من الأحرى أن يكون بجانب الهجوم لما فيه من صفات القتال والمبادرة والتعطش للحرب. وهو بقدر ما يعدد سلسلة المزايا لحرب الدفاع، فإنه يسرد سلسلة العيوب لحرب الهجوم.
وبالنسبة للدفاع عنده فهو لا يقل عن الهجوم بل يستطيع تجاوز أهمية الهجوم إذا أحسن استخدامه. وحتى في حديثه عن الهجوم في المكان المخصص له، فإنه يتحدث عن أهمية الدفاع وتساويه مع أهمية الهجوم. ومساواته بين عملية الدفاع وعملية الهجوم، بل أهمية وفعالية الأول على الثاني، وفي الحالات التي لا يفضله على الهجوم يسويه معه ويضعه في رتبته وأهميته.(ص 339)
ويظهر لنا جليا من خلال عدد الصفحات التي خصصها للدفاع مقارنة مع الهجوم. حيث خصص للحديث عن الدفاع (102 من الصفحات، لم يخصص سوى 34 صفحة للحديث عن الهجوم!)، وهذا يفسر الكثير.
إذن ما هي الأسباب العميقة وراء اختياره لآلية للدفاع بدل الهجوم؟
لقد قلب كلاوزفيتز كل المفاهيم فالدفاع أكثر قتالية من الهجوم!(ص 348) وهو يرى في نظرية الدفاع مزايا كثيرة تجعل له الأهمية والأولوية في الحروب. كما يرى أن الدفاع نظريا أسبق في الفن العسكري من الهجوم! وأن الدفاع أسهل من الهجوم.(ص 327) وأن المهاجم أكثر خوفا وترددا، بينما المدافع أكثر استعدادا للقتال.(ص 360-361) وأن نظرية الاستنزاف هي لب نظرية "الدفاع". حيث يصبح الانتظار من طرف الدفاع ميزة! (ص 350) وتتناقص قوة الهجوم.(ص 418) وبالتراجع يتم ربح المدافع لطاقة أكبر من طاقة المهاجم. بل وجود الوقت الكافي لصالح المدافع قبل الهزيمة والاستسلام. حتى أن تأخير الحسم نوع من المقاومة حتى يستنزف العدو نفسه بنفسه بدلا من تدميره بالسيف على حقل المعركة.(ص 404) وحتى يصبح التأخير والتأجيل وإرهاق الخصم ميزة الدفاع المحكم.(ص 355)
وميزة "الأرض" هي من الأمور الإستراتيجية التي تجعله يميل أكثر إلى عقلية الدفاع أكثر من الهجوم.
لأن ميزة الأرض تتيح تعاونا بين القلاع والشعب.(ص 354) كما أن الأرض تربح المفاجأة في صراع الدفاع والهجوم.(ص 333)
ومن بين الأمور الأخرى العميقة والدفينة التي جعلته أيضا يميل إلى حرب الدفاع، نجده يتحدث عن الحرب الشعبية في البلدان والمناطق المتفرقة والتي ليس لها نواة صلبة.(ص 374) وهذا سبب من الأسباب التي تنضاف إلى اختياره للدفاع كإستراتيجية ناجعة لأن الشعب ينضاف إلى الأرض في الأهمية الحربية الدفاعية، كما هو الحال بالنسبة لعنصر القوى المعنوية.(ص 387) فالحرب الشعبية توفر هذا المعطى.(ص 381) وتسمح بخلق اللحمة والانسجام والتلاحم وتقوية الروح المعنوية اللازمة للحرب.
ولاشك أنه في تمجيده للدفاع كان بين عينيه وضعية بروسيا المتفككة والضعيفة بين قوتين عظمتين روسيا من جهة و فرنسا من جهة أخرى هذه الوضعية التي لم تكن تؤهل بروسيا بالهجوم على العدو الخارجي. وهذا يظهر جليا من خلال تفضيله القاطع للوقوف مع روسيا ضد القوات الفرنسية. وسعيه لتطبيق نظريته الدفاعية خلال الحرب الروسية الألمانية.(ص 357) والاستفادة من المجال الجغرافي الشاسع لروسيا والتي يصلح تطبيق نظريات الحرب الدفاع فيها وتطبيق الانسحاب التكتيكي من أجل الفوز في المعركة.
وعموما فإننا ننتظر إلى (الصفحة 382) لنعرف الأسباب الفكرية والنوايا الحقيقية لاختيار إستراتيجية الدفاع بالنسبة لكلاوزفيتز، والإقرار بأن ألمانيا وتفرق مساكنها لا يصلح لها إلا الحرب الشعبية.
وتبقى نظرية كلاوزفيتز في الحرب الدفاعية صالحة للدول القارية العظمى: روسيا، أمريكا، الصين البرازيل...
خاتمة لابد منها
يعد كتاب كلاوزفيتز "في الحرب"، لبنة أساسية في الدراسات العسكرية العالمية. لقد سما كلاوزفيتز الأشياء بمسمياتها؛
- عرف الحرب تعريفا جديدا ومبدعا.
- فصل المقال فيما بين السياسة والتجارة والحرب من غموض و تشابك واتصال.
- فضل الدفاع عن الهجوم في سابقة مفاجئة معللا نظريته بالبراهين والحجج.
- حدد موقفه من النظرية التي ينحصر دورها في ترتيب الأفكار والمفاهيم المتشابهة والغامضة، وفصل القضايا الهامة عن الثانوية، وتساعد على اقتلاع المفاهيم الخاطئة، ولا تعد منهجا محددا للحرب، إذ لكل عصر أشكاله ونظريته الخاصة للحرب. وهنا يبدو العمق وتبدو الواقعية في التحليل.
- وتحدث بتفصيل عن نسبية العمل الحربي واعتبار الحرب مسألة حقيقية وليس مطلقة، متحولة ومتغيرة وليست ثابتة ومستقرة. لقد ميز جيدا بين الهدف العسكري والغاية السياسية، وأن الحرب مسألة متحركة وليست ثابتة.
وعلينا محاولة قراءة الكتاب من خلال استحضار مجموعة معطيات مفاتيح لفهمه، ومنها وضعية بروسيا المشتتة والضعيفة في تلك الفترة من التاريخ (مطلع القرن العشرين) وأن لا ننسى أن كلاوزفيتز شارك مع الجانب المهزوم وتعرض للأسر. وكان مطالبا بحل حربي يعيد الكرامة للبروسيين. وكان كلاوزفيتز يفكر طوال حياته في معركة ضد فرنسا ويعد لها. كان يريد هزم فرنسا بأي شكل.(ص 379)
ومن خلال طبيعة الكلمات التي كان يستعملها المؤلف في بداية فقراته أو حين إرادته التعبير عن موقف أو شرح رأي معين: ينبغي أن...، على القائل أن...، من الضروري الاهتمام بـ...) وهو أسلوب حجاجي دافع به كلاوزفيتز عن أطروحاته وآراءه، ويحمل نفسا مؤيدا لأطروحاته ضد الإكراهات التي فرضتها المدرسة العسكرية مع نابليون والثورة الفرنسية على المدارس العسكرية الأخرى.
كتاب كتب قبيل الطفرة التقنية الصناعية في الميدان الحربي. كلاوزفيتز لم يعرف الطيران ولا المدرعات، ولا السكك الحديدية ولا الأجهزة اللاسلكية ولا الهاتف والتفاعل الذري.(ص 68) لكنه يبقى لبنة أساسية في الفكر الحربي و يشكل قطيعة مهمة مع ماضي هذا الفكر...
- الكود:
-
http://www.4shared.com/office/djPpbq_a/__online.html