بعيدا عن بلده الأم انجلترا، حل والتر هاريس ابن إحدى العائلات البريطانية الغنية بالمغرب في القرن التاسع عشر، وسافر في ربوعه وتعرف على عادات المغاربة وتقاليدهم. بعد سنوات من استقراره في طنجة، تعرض هاريس للاختطاف وسقط في أيدي رجال مولاي أحمد الريسوني، الرجل القوي في طنجة الشهير بكونه قاطع طريق وجبارا ومختطفا. نشر هاريس فصول قصة اختطافه، ولقائه بالسلطان مولاي الحسن وحياة القصور الفخمة بأسلوبه الساخر الممزوج بالطرافة في كتابه «المغرب المنقرض».
مقتطف من الكتاب...
القصر يخفي نبأ وفاة السلطان ومولاي الحسن ينقل ميتا إلى الرباط
وصل المولى الحسن إلى تافيلالت مريضا وأشبه بالرجل الميت، وأصبح واضحا أن المرض الذي كان يعاني منه قد جعله بطيء الحركة خصوصا وأنه لم يكن قادرا على أخذ قسط من الراحة وتتبع الحمية الصحية التي يفرضها وضعه الصحي.
استقر به المقام في تافيلالت عاصمة الجنوب، وفي نهاية شتنبر 1894 غادر مولاي الحسن لإخماد ثورة في تادلة، وأثناء نزوله بها، داهمه الموت في أرض العدو. في تلك الفترة وفاة السلطان في ظروف مماثلة كهذه كانت بمثابة خطر محدق بالدولة التي تحكمها ملكية مطلقة، وغياب رمز السلطة فيها جعل البلاد بلا قائد إلى غاية الإعلان عن اسم من سيخلفه على العرش. وجد الجيش نفسه في موقف صعب إذ بعد الإعلان عن خبر وفاة مولاي الحسن اندلعت أعمال العنف وسرقة ممتلكات الحركة الملكية.
لطالما حافظ وجود السلطان وحضوره وسط الجيش على هيبة المملكة ضد أي هجوم للقبائل المتناحرة، وخلق التماسك في صفوف القوات الملكية لتصير مثل الجسد الواحد، وبمجرد وفاته، سادت موجة من الفوضى في صفوف الجيش ولم تتوان القوات عن اغتنام الفرصة لتطلق يدها في السرقة والقتل.. توفي السلطان داخل خيمة محصنة بأقمشة خشنة الملمس، ولم يكن يتم السماح بدخولها سوى لقلة من الشخصيات المقربة في حالات نادرة، لذا لم يعلم بخبر هذه الوفاة سوى العبيد وبا احمد مدير التشريفات الملكية. صدرت الأوامر أن موكب السلطان سيتحرك من أجل العودة قبل بزوغ الفجر، وتم إخفاء تابوت المولى الحسن وإقفال الأبواب ورفع ستائر الخيمة، وتكلفت البغال بحمل نعش السلطان بشكل متقن. صدحت الأبواق وبدأ الحرس يرددون العبارة المعروفة: «الله يطول في عمر سيدي». بدأ الموكب بالتشكل ورفرفت الرايات، واستمر السلطان المتوفى في شق طريقه. استمر سفرنا وقتا طويلا ولم نتوقف إلا عندما أراد «السلطان أن يتناول وجبة الغذاء»، وبالفعل تم إحضار الوجبة وإدخالها مع صينية الشاي قبل أن يتم الانتهاء منها ولم يكن أحد يعلم بالسر ودخول الخيمة سوى العبيد. ظل مدير التشريفات على اتصال بـ«الجثة»، ويخرج بعد فترة قصيرة من الوقت ليخبرنا أن السلطان يأخذ قسطا من الراحة وقد تناول وجبة الغذاء، ليبدأ الموكب في التحرك.
بعد مضينا في رحلة سير مضنية، وصلنا ليلا إلى المكان الذي تم تحديده، ليخاطبنا مدير التشريفات بأن السلطان يحس بالتعب وأنه سيتباحث مع المستشارين بخصوص المواضيع الراهنة في الخيمة مثلما جرت به العادة دائما. أحضر الحاجب الوثائق التي تحتاج إلى التوقيع إلى الخيمة الملكية، ليخرج إلى الحاضرين بالإجابات موقعة بالخاتم الشريف إلى المعنيين بها. استحث عناصر الجيش الخطى لأن الموكب مازال يتواجد في أرض الأعداء، لكن وفاة المولى الحسن لم تبق أمرا مخفيا لمدة طويلة، فسرعان ما كشفت الجثة السر، ليعلن با احمد إذن أن جلالة الملك قد توفي قبل يومين، ليتسنى بالتالي لنجله الشاب مولاي عبد العزيز، الذي اختاره والده، أن يصبح وريث العرش الجديد في الرباط بعد تلقي خبر الوفاة من طرف المبعوثين من تافيلالت.
كانت «العملية متقنة للغاية» وأصبح الجيش الآن في منأى عن هجوم القبائل، وبث خبر تولي السلطان الجديد على عرش والده نوعا من الهدوء في كل الربوع ومنع من نشوب الصراعات والتناحرات.
بعد يومين وصلت جثة السلطان المتوفى في حالة تحلل إلى العاصمة الرباط، ووصل الموكب في حالة يرثى لها كما وصف لي مولاي عبد العزيز، إذ لم تستطع البغال تحمل الرائحة التي لا تطاق للجثة التي كانت تسير خمسة أيام في عز الصيف، وحاولت غير ما مرة أن تنزل ذاك الثقل من على ظهرها. وحسب ما تقتضيه العادات، لا يسمح لأي جثة أن تمر من أبواب مدينة مغربية، ولم يكن السلطان استثناء لهذه العادة، لذا تم حفر ثقب في حائط المدينة وتمرير الجثة عبره إلى أن وصلت إلى القصر لكي يتم دفنها، وبعدها تم إغلاق تلك الكوة في الحائط. حضرت العديد من حفلات الاستقبال أمام مولاي الحسن كلما جاءت بعثة إنجليزية إلى المغرب، لكنني لم تتح لي فرصة تجاذب أطراف الحديث مع السلطان الراحل، وفي تلك الفترة كان القصر مغلق الأسوار وتقاليده وقواعده كانت صارمة. لم يكن متشددا في سياسته الخارجية، بل كان قادرا على نسج علاقات مع الدول الأوروبية للانفتاح على العالم وأعتقد أنه كان سعيدا بذاك الأمر.
سيدتان تركيتان تحكمان القصر وأسر فاس الارستقراطية تكرس نفوذها
اعتلى مولاي عبد العزيز العرش سنة 1894 وعمره لم يتجاوز ثلاث عشرة سنة، وكان أصغر أبناء المولى الحسن، لم تكن الخلافة في العرش في ذلك الوقت تتم بالوراثة، ونادرا ما اعتلى العرش شقيق السلطان خلفا له أو أحد الآباء ذوي النسب البعيد. وإذا كانت الملكية وراثية، فإن السلطان في المغرب هو من كان يختار من سيخلفه على العرش. أن تكون من النسب الشريف، أي من نسب الرسول محمد أهم من رابطة الأبوة التي تربطك بالسلطان الذي ستتولى العرش محله. بعد خلع وتنازل السلطان مولاي حفيظ عن العرش سنة 1912، وقع الاختيار على المولى يوسف ليحكم البلاد فوافق بلا تردد.
كانت والدة مولاي عبد العزيز، للا رقية، سيدة تركية تم جلبها من القسطنطينية إلى المغرب، ومعروفة بذكائها وقوة شخصيتها وأما شجاعة. لا أنسى أن أضيف أنها لعبت دورا سياسيا في البلاد ولم تتردد في توجيه النصائح إلى زوجها بخصوص شؤون الدولة. على أية حال، كان من الواضح أن تأثيرها على الخصوم مكنها من بسط نفوذها على السلطان إلى أن توفي، وضمنت بالتالي تولي ابنها العرش، ونسجت للا رقية علاقة صداقة وطيدة مع تركية أخرى من الحريم، لم تكن سوى والدة السلطان مولاي يوسف. من الغريب أن تصبح هاتان السيدتان الأجنبيتان والدتي سلطانين في تاريخ المغرب. كان من الطبيعي أن يحدث تولي أمير قاصر مقاليد الحكم ظهور مؤامرات في القصر الذي كان ينقسم إلى فريق يتزعمه الحاجب القوي با احمد، أما الفريق الثاني فكان يقوده الوزير الأكبر ووزير الحرب، وينحدر هذان الموظفان من عائلة كبيرة لأولاد الجامعي ويتعلق الأمر بالحاج المعطي وسي محمد صغير.
لم يكن با احمد سوى ابن أحد العبيد في القصر، مما جعله محروما من الاعتماد على قبيلة أو عائلة تتمتع بالنفوذ، وكان خصومه ارستقراطيين من فاس ومن عائلات عريقة لها نفوذ في المدن التي تقطنها، وهي تشكل ما يسمى في المغرب بعائلة «المخزن». حصل أفراد هذه العائلات منذ القدم على مناصب عالية في الحكومة، مما جعلهم يطالبون دائما بالاستفادة من الامتيازات، لذا كان من البديهي أن تنشأ الغيرة بين هذين الفريقين.
خول منصب الحاجب لبا احمد امتياز الاقتراب المستمر من الملك، الذي كان، بحكم صغر سنه، على تواصل دائم مع وزرائه. اعتمد با احمد على مساندة والدة السلطان لأنه كان الخادم الوفي لزوجها ونفذ رغبته في تولية ابنه العرش بعد وفاته، وظل هدفه الدائم أن يحافظ على حالة الاستقرار، وهو ما كان يحرص عليه با احمد ووالدة مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ. مباشرة بعد تشكيل الحكومة، أصبح بإمكان مولاي عبد العزيز أن يغادر الرباط إلى فاس، العاصمة الحقيقية للبلاد. لا يستطيع أي سلطان ضمان عرشه دون الحصول على رضا رجال الدين والارستقراطيين في مدينة فاس وتثبيت إقامته في مدينتهم.
كانت فاس بمثابة مركز ديني وجامعي وبها كانت تحاك المؤامرات، إضافة إلى النفوذ الكبير الذي كانت تمارسه ساكنتها على باقي القبائل، لذا كان من الضروري أن ينتقل السلطان الشاب إلى فاس في أقرب فرصة، ونجحت لقاءاته مع قبائل مكناس في الهدف المرسوم لها. لقد استقبله سكان مكناس بحفاوة في المدينة التي بناها مولاي اسماعيل في عهد لويس الرابع عشر، وفاس لم تعد تبعد سوى بـ 32 ميلا وأصبحت أقرب الآن. استوعب با احمد ظروف هذا الوضع بشكل جيد لأنه يعلم أن نفوذه سيتقلص بمجرد أن يضع قدميه في فاس. وفي وقت يعتمد خصومه على سكان فاس وأقارب السلطان الذين يعيشون في العاصمة، يجد با احمد نفسه وحيدا لأن الفاسيين هم من جلبوه إلى القصر ويتحينون الفرصة للإيقاع به، مما يعني أن الوقت حان لاتخاذ قرارات حاسمة. لا أحد كان بإمكانه توقع موعد العاصفة، والأخوان الجامعي ينتظران بلا شك وصوله إلى فاس ليحيكا المؤامرات ضده، بينما يبدي با احمد اللباقة أمام الوزيرين القويين.
بعد أيام من وصولهما إلى مكناس، بدأت الاستعدادات لعقد الاجتماع الصباحي مثلما جرت به العادة. دخل الوزير الحاج المعطي إلى القاعة بجلبابه الأبيض وسط صف الخدم والفرق التي حيت قدومه. كان السلطان مولاي عبد العزيز وحيدا مع حاجبه با احمد عندما دخل الوزير وانحنى أمامه منتظرا أن يعطيه السلطان فرصة الحديث. بنبرة باردة، طرح مولاي عبد العزيز سؤالا على الوزير ولا يبدو أن الجواب الذي حصل عليه قد أعجبه ليتطور المشهد بعدها على نحو مثير..
السلطان مولاي عبد العزيز يعاقب وزيرين بالسجن بتطوان بتهمة الفساد
انبرى الحاجب با احمد لمهاجمة الوزير الحاج المعطي وتوبيخه واتهامه بخيانة الأمانة وفساد الذمة وبارتكابه جرائم سياسية، وفجأة استدار وطلب من السلطان أن يقوم بتوقيف الوزير، وأومأ إليه مولاي عبد العزيز بالموافقة على ما قاله. بعد لحظات، ظهر رجل في وضعية مؤثرة للغاية وهو يبكي يجره الحرس وسط سخرية من كان حاضرا في المكان. تمزقت ملابسه بعد أن جره الجنود بعنف، وتجريده من «الرزة» التي كان يضعها على رأسه. لم يستحمل الوزير الأكبر متابعة ما يتعرض له شقيقه الوزير محمد الصغير الذي تم إلقاء القبض عليه قبل أن يهم بمغادرة بيته ولم يبد أية مقاومة وتم اقتياده بعدها إلى السجن. تتمة هذه القصة قد تكون ربما أكثر الصفحات سوداوية في فترة حكم السلطان عبد العزيز، حيث تم إيداع الوزيرين السابقين معا في بسجن تطوان وتكبيلهما بالسلاسل داخل الزنزانة، ليفارق الحاج المعطي الحياة بعد عشر سنوات. لم يستطع والي تطوان دفن الوزير لأنه كان خائفا أن يتم اتهامه بترك السجين يفر من الحبس، ليراسل القصر للحصول على التوجيهات المناسبة خصوصا وأن فصل الصيف كان حارا تلك السنة. ولم يصل الرد إلا بعد مرور أحد عشر يوما، وطيلة هذا الوقت، بقي محمد الصغير مقيدا إلى جانب جثة أخيه المتوفى.
لم يلاق الصغير مصير شقيقه وظل حيا في السجن، وبعد مرور أربع عشرة سنة على السجن، تم إطلاق سراحه عام 1908، وخرج إلى العالم رجلا محطما بلا أمل وضائعا بعد أن تم الحجز على جميع ممتلكاته. زوجاته وأبناؤه توفوا بسبب البؤس والحسرة، وغادر زنزانته أعمى وجراح القيود الحديدية مازالت محفورة على جسده. في عز أوجه كان الوزير الصغير ذا بأس مهاب الجانب، لكنه دفع ثمن أخطائه غاليا جدا..
قرر الاستقرار في طنجة وهناك كنت ألتقيه بشكل يومي بهيئته الفقيرة ويرضى بالقليل فقط رغم المساعدات التي كان يقدمها له أصدقاؤه القدامى. استضافته سيدة عجوز من العبيد الذين استقدمتهم عائلة الصغير في الماضي، حرصت على العناية به في طنجة وتدليك قدميه ويديه اللتين عانتا من وطأة السجن، لتستيقظ ذات يوم وتجده متوفيا.
قبل يومين من وفاته، رأيته لآخر مرة وكان من الواضح أنه لم يتبق له من الحياة سوى نفس وحيد. بقيت إلى جانبه فترة من الوقت، وعندما وقفت استعدادا للمغادرة، قال لي: «اسمعني، عندما يريدون تغسيلي قبل الدفن، اطلب منهم أن يضعوا علي السلاسل والقيود الحديدية لأنني أريد أن أقابل ربي بالهيئة التي قضيت بها أربع عشرة سنة داخل السجن. أريد أن أطلب من ربي تحقيق العدالة التي رفض السلطان أن يعترف لي بها وأنال المغفرة منه لكي تفتح لي أبواب الجنة». كان من المستحيل أن يتم وضع الأغلال والسلاسل على جسده بعد وفاته، لكنهم وضعوا قطعة حديدية على قبره، وخصصت له جنازة عسكرية حضرها المسؤولون العسكريون وكبار الموظفين بالمدينة، ألم يكن في الماضي «وزيرا للحرب»؟
بعد الإعلان عن تولي مولاي عبد العزيز العرش، كانت بريطانيا العظمى ممثلة في المغرب بالسير ارنست ساتوو، ونقل إليه القائد ماك لين هذا الخبر دون إبطاء. اقترح علي السير ساتوو فكرة إرسال مبعوث خاص إلى فاس ليقوم بمهمة تبليغ القصر بالمخاطر المحدقة بالمغرب وإمكانية اندلاع ثورات داخلية فور الإعلان عن نبإ وفاة السلطان. اقترحت نفسي للقيام بهذه المهمة وتم قبول العرض، لأبدأ الاستعداد ليلا مع أحد المرافقين وكلانا مسلح وجاهز للانطلاق. لم أكن أحمل في العادة الأسلحة أثناء تنقلي في مناطق المغرب، ونادرا ما كنت أجد نفسي مجبرا على ذلك لأنني كنت أخشى أن تعترض العصابات سبيلي أثناء السفر.
ارتديت ملابس الرحل الذين يعيشون في الجبال وحلقت رأسي مثل المغاربة وانتعلت نعلا جلديا أصفر ومعطفا صوفيا بنيا خفيفا يغطي جسدي، لكي لا أثير انتباه قطاع الطرق عكس مرافقي الذي لم يكن يثير أية شبهات، وبعدها اخترنا فرسين قادرين على تحمل مشاق السفر. كان من الضروري أن نسافر في أقرب وقت لكي نصل بسرعة إلى القصر لأن نبأ وفاة السلطان لم يكن منتشرا بعد في مدينة طنجة.
لم أكن قادرا على السفر مباشرة إلى فاس، لأن مهمتي تتضمن أيضا زيارة بعض عائلات «الشرفاء» الذين لديهم نفوذ في البلد ويعرفونني بشكل شخصي، لكي أطلب منهم أن يستخدموا نفوذهم لضمان السلم والنظام في البلد.
- الكود:
-
http://www.4shared.com/office/Krp9Qa6l/le_maroc_disparu_-_walter_harr.html