موضوع: روح خلية النحل الأحد أكتوبر 20, 2013 6:26 am
[img] [/img]
فيكتور إيريثه victor Erice يعد واحداً من كبار المخرجين في السينما الإسبانية، رغم أنه خلال ثلاثين سنة لم ينتج سوى ثلاثة أفلام. في 1973 نال فيلمه الأول ''روح خلية النحل'' spirit of the beehive ثناء النقاد كما حاز على العديد من الجوائز الدولية. هذا الفيلم الذي لا يعتمد على الحوار المنطوق قدر اعتماده على الشكل المركّب للصوت و الصورة، يتركز حول طفلة غامضة تجسد الرؤية القلقة والملتبسة لوطن كان قابلا للتغيير السياسي.
بعد عشر سنوات من الصمت، جاء فيلمه الثاني ''الجنوب'' the south ليواصل فيه انشقاقه الشعري و ليعرض اهتمامه - إلى حد الاستغراق- بالمسيرة العنيدة للزمن.
بعد عقد من الزمن، قدم فيلمه الثالث، الوثائقي، ''شمس شجرة السفرجل'' the quince tree sunالذي يؤرخ للمحاولة المستحيلة التي قام بها الرسام الإسباني أنتونيو لوبيز للإمساك بلحظة الإشراق، على القماش، وقت نضوج ثمرة السفرجل في حديقته.
من إحدى أحاديث فيكتور إيريثه، القليلة جدا، نترجم هذه الآراء والاستشرافات عن السينما والفن، وعن أفلامه خصوصا، والتي تسلط بعض الضوء على المعضلات التي يواجهها السينمائي في مسيرته الجادة والعميقة:
في مواجهة التضخم الراهن للصور، في مواجهة ما يسميه (المخرج الألماني) فيم فيندرز ''تلوث الصورة''، فإن إحدى المعضلات الرئيسية التي نشعرها اليوم، كصانعي أفلام، هي كيفية منح الصحة والمصداقية للصورة المنتجة على نطاق واسع.
التلفزيون يقذف، يوميا، آلاف الصور في اتجاه البيوت، في كل مكان من العالم. هذا الفيضان هو الذي يسبب تضخم الصورة. و نحن مرغمون على البحث باستمرار من أجل أن نستعيد إلى السينما تلك الرؤية للصورة الحقيقية. وفي هذا أجد العلاقة مع الرسم مثيرة للاهتمام إلى حد بعيد، ذلك لأن الرسام هو الخالق الأول للصور في حضارتنا. من وجهة نظري، الرسام هو الفنان البدائي، الفطري. الرسم لغة منبثقة من فجر حضارتنا، بينما السينما لغة منبثقة من شفق حضارتنا.
بالطبع لا نستطيع العودة إلى مواقع الرواد من صانعي الأفلام - لوميير، جان فيجو، فريدريك مورنو، بدايات رينوار- ذلك لأن مئة سنة من السينما تندفع نحونا. سينما تلك المرحلة لم تكن تنعكس على ذاتها، إنما تركت نفسها تعيش فحسب. مع ذلك، أحيانا تحتاج إلى الالتفات إلى الوراء و النظر إلى الجذور.. لا لتحاكي، لأن من المستحيل أن تعيد إنتاج الشيء نفسه، بل لأن ضمن عالم يعاني من أزمة فقدان الهوية، يمكن لتلك الجذور أن تسلط ضوءاً معينا.
اليوم، كل شيء مصنوع وفقا لوصفة معينة، وصفة ساهمت في نفي الواقع و كرست الأنماط. ثمة تعب، مرض. و مع أن هناك سينما تحققها مواهب عظيمة، إلاّ أنها مقدمة بحيث تؤدي غرضا ما. لذا فمن المهم للسينما أن تعود وتتصل بالواقع.
فيلمي'' روح خلية النحل'' يتحدث عن الجيل الذي عاش في فترة الحرب الأهلية (الإسبانية). الحرب الأهلية هي من أكثر التجارب رعبا لأي مجتمع، إذ يتم تحريض الأخ ضد أخيه ويندلع التناحر بينهما. وفي الحرب الأهلية الكل مهزوم. ليس هناك منتصر حقيقي.
ما ميّز أولئك الناس في ذاكرتي - أيام الطفولة- هو أنهم كانوا، بوجه عام، أفراداً صامتين، منكفئين على ذواتهم. لم يرغبوا في الكلام لأنهم اختبروا شيئا مرعبا جدا. ونحن الأطفال اختبرنا ذلك كشكل من أشكال الغياب. لقد شعرنا بأنهم، في العمق، بعيدون عنا جدا. و ربما لهذا السبب كان هناك فقدان للاتصال.
أنا لم أصور فيلمي هذا كي أحل معضلة الرقابة. كنت مهتما أساساً بالعثور على صوتي الخاص، وبما أن فقدان الحرية شيء حمله جيلي بداخلهم، فقد افترضت بأن صوتي سوف يعكس ذلك الفقدان على نحو طبيعي. كنت دوما أؤمن بأن اللغة الفنية - و الشعر بالذات- هي اللغة التي لا يمكن تصنيفها اجتماعيا، وأن الرقباء لا يفهمون إلاّ ما هو مصنّف اجتماعيا. لذا فقد كان الرقيب عاجزاً عن حذف لقطة واحدة من الفيلم. لقد شعروا بأن الفيلم لا يتوافق مع أفكارهم، غير أنهم لم يجدوا الحجج والبراهين من أجل تدميره.
في السينما هناك لغة النثر و لغة الشعر. بازوليني كان يميل إلى تعيين هذا الاختلاف والتمايز. لقد تحدث عن سينما النثر وسينما الشعر ليميّز بين هذين النوعين من اللغة. النثر دائما يسرد الأشياء بطريقة مباشرة، في حين يعبّر الشعر عن أفكار العالم بطريقة غير مباشرة تماما، ربما على نحو أقوى، لأنه يخاطب اللاوعي.
أحد الأشياء التي كنت مهتماً بها كثيراً في تحقيقي لفيلم ''شمس شجرة السفرجل'' هو أن أقدم معاً اللغة الأكثر موضوعية - لغة الوثائقي- و اللغة الأكثر حميمية، والتي هي تعبير عن الحلم. كان في ذهني فيلم مورنو '' تابو'' (المحرّم) الذي دمج فيه الوثائقي بالقصصي. إن جزءاً هاماً من تاريخ السينما مبني على ذلك الشد: فيلم تابو، بعض أفلام فيجو، أفلام روسيليني( paisa ، روما مدينة مفتوحة، ألمانيا تحت الصفر)، فيلم رينوار ''النهر''، و فيلم ألان رينيه '' هيروشيما حبي''.
فيلمي ''شمس شجرة السفرجل'' يمكن أن يفهم بوصفه يوميات لأثر فني، تأريخ للعمل الفني يوما بعد يوم. في فيلميّ السابقين كان النهج مختلفا لأنهما يتحدثان عن الماضي. كان لابد من أخذ الواقع بعين الاعتبار، من حيث التدخل فيه أو حتى تعديله لجعله معبّرا، ولإعادة بناء الإحساس بالماضي. ذلك اقتضى انتحال الدور الكلاسيكي للمخرج بوصفه الشخص الذي يبني عالما بوسائله الخاصة.
بوجه عام، لا أحب السينما التي تكون فيها الرسالة جلية جدا، لذلك لا أسمي هذا فرضا لتأويل معين للواقع بل إظهاراً أو اقتراحاً بتأويل خاص.
إن لغة التلفزيون هي لغة سلطوية، استبدادية، تلتمس الوسائل الخفية في إقناع الوعي، بينما لغة السينما - أو لغة السينما التي أحبها على الأقل- تحقق الاتصال على المستوى العاطفي وتجبر الناس على النظر داخل ذواتهم.
أعتقد أن كل الأفلام التي حققتها تمتلك سمة مشتركة: إنها تصور رحلة الاكتشاف، الرحلة الروحية. في البدء، ثمة وعي يبدأ في اكتشاف الأشياء، وفي نهاية الرحلة يكون ذلك الوعي قد فهم شيئا.