موضوع: أغيرا، غضب الرب الخميس أكتوبر 03, 2013 4:48 am
بالكثير من التصرف، أستندَ هيرزوغ على نص حقيقي لكاهن كاثوليكي رافق بعثة أرسلها الملك الإسباني عام 1561 للعثور على وادي الذهب (إلدورادو)، ليحقق فيلماً عن الجشع و الهوس و الجنون و النبؤة. رحلة في نهر الأمازون نحو ذلك الوادي المتواري خلف الخيال و الإسطورة التي نسجها شعب "الأنكا" في حكايات أثارت جشع المستعمرين الأوروبيين. و رغم كل المحاولات المتكررة فقد بقي ذلك الوادي سراباً يخالس الخيال الأوروبي و لا يتجسد.
يبدأ هيرزوغ فيلمه بمشهد طويل يكاد أن يكون مستحيلاً. فالكاميرا تطلّ من زاوية عمودية على ذروة جبل و درب ضيق ينحدر نزولاً حيث نكاد أن نميز (بسبب الغيوم) قافلة من الأشخاص الذين يتعثرون في نزولهم على ذلك الدرب. الكاميرا ترحل مقتربة من الأشخاص فتخترق الغيوم في اللحظة التي يكون فيها صوت من خارج الكادر يروي: "...و بدأنا بالهبوط من الغيوم..." و سنكتشف بعدها أنهم ما هبطوا إلاّ إلى جحيمهم! منذ البداية، تضع زوايا الكاميرا، هذه القافلة في مأزق هدفها الذي يبدو مراوغاً كلما أوغل أفرادها في مجاهل الدغل الأمازوني. و حين تصل البعثة إلى ضفة الأمازون الهادر إنحداراً يقول "أغيرا": "..لا يمكن لإنسان أن يعبر هذا النهر دون أن يقضي نحبه.." و ستكون تلك نبؤته الأولى، خصوصاً و أنه سيكون هو من سيقود البعثة بعناد و هوس نحو حتفها.
مع إستحالة التقدم برّاً في الأدغال يقرر رئيس البعثة الأمير بيدرو أورسوا أن عليهم بناء طوفاً من جذوع الأشجار و إستغلال تدفق النهر الشديد للإسراع في حركتهم نحو هدفهم. هنا يبدأ النزاع بين الأمير و نائبه "أغيرا" (كلاوس كينسكي) الذي سرعان ما ينقلب على الأمير و يتقلد قيادة البعثة لكن دون أن ينسى أن يعين "إمبراطوراً" صورياً ليكون الواجهة التي سيحكم من خلفها. كما يعلن "أغيرا" إنفصاله عن التاج الإسباني و بالتالي سيادته هو على كل الأراضي التي يبحرون في الأمازون عبرها..! ربما لا يمكن هنا لمن يحب الإسقاطات التاريخية و الرمزية أن يغفل عن الإشارة إلى الصعود النازي في السياسة الألمانية في عشرينيات القرن السابق و الإنقلاب الذي قام به أتباع الصليب المعقوف على "الشرعية" حينها و سوقهم البلد بعد ذلك إلى مصيرها المجع، و هو ما يفعله "أغيرا" بالبعثة بإصرار و صلف...و جنون! و لاينسى هيرزوغ هنا دور الكنيسة الملتبس تاريخياً أيام النازية عبر الإشارة خلال فيلمه حين يقوم أغيرا بترتيب محاكمة صورية للأمير المخلوع و يتم الحكم بموته، فتتوسل خطيبته الأميرة للكاهن الكاثوليكي، كونه رمز الكنيسة، للتدخل في شأن حماية الأمير فيجيبها الكاهن: "...الكنيسة مع القوي..."! و لا أحد يغفل عن دعم الكنيسة الكاثوليكية القوي للديكتاتور الإسباني القاسي "فرانكو" خلال و بعد الحرب الأهلية الإسبانية. كما أن الفاتيكان لم يبخل على فاشيست "موسيليني" بالتأييد إلا حين بدأ "الدوتشي" يترنح أواخر أيام الحرب الثانية.
هيرزوغ لا يحب (بل و يرفض) أن يقال أنه صنع فيلماً عن إسقاطات تاريخية أو سياسية مهما كانت جلية في أفلامه. و هو يصرّ على أنه يصنع أفلاماً عن صراع الفرد الوجودي مع محيطه، أو مجتمعه، أو الطبيعة، أو هواجسه التي تودي به إلى الهزيمة المحتومة. هو مأزق الإنسان مع ذاته. في هذا ينجح هيرزوغ بدون جدل. فرحلة القافلة عبر أدغال الأمازون المفزعة إنما هي رحلة الفرد نحو مواطن القلق والجنون داخل عقله. و تلك الغابات الكثيفة التي لا يمكن للعين أن تسبر أعماقها إنما هي النفس البشرية الموغلة في غموضها و التي لا يمكن للمرء أن يتنبأ بكنه ما يمكن أن تأتي به. و من عمق تلك الأدغال الأمازونية الكثيفة يأتي الموت على شكل سهام سامة لا تلبث أن تقضي على أفراد البعثة. نحن لا نرى من يرسل تلك السهام لكن كاميرا هيرزوغ تبقينا (كما أفراد البعثة) على حافة القلق الهاذي نترقب كل إنعطافة نهر أو فسحة فارغة بين الأشجار فمن واحدة منها قد تأتي النهاية. و حين تأتي النهاية تدور الكاميرا بلا هوادة حول الطوف و يبدو "أغيرا" المسعور بجنون النبؤة و هذيان الرحيل متنبأ ً بالقادمين من أوروبا بعده إلى هذه الأرض ليفتحوها و ينهبوها و ينالوا مجدها، فيما هو الواقف على جثة إبنته لا يقيم إحتفال رحيله المأساوي إلا حفنة من قرود الغابة التي غزت الطوف المتعثر بوحول النهر. هي القرود ترثنا. أنسباؤنا الموغلين في البعد رجوعاً، ترثنا. و كأن الحكاية عليها أن تبدأ من جديد نحو نفس النهاية على طوف تائه كما روح راكبيه و عقلهم الذي أوغل في سطوته،عناده، خيلائه و...جنونه! هو الجنون إذاً، أو هو "الأنا" حين تفقد الروح بصيرتها.
"أغيرا، غضب الرب" فيلم مدهش، خلاب، و آسر عن الإنسان و علاقته المعقدة مع هواجسه المتعلقة بالقوة، و السلطة و المجد. هو عن ذلك الإمبراطور الهش و المنتشي بإن "إمبراطوريته" في الأمازون قد بلغت ستة أضعاف مساحة أسبانيا لكنه في الحقيقة لا يدرك أنه لا يملك سلطة أبعد من حوافي الطوف الخشبي الذي يطفو على نهر يبدو،بتقلباته، أنه سيد المشهد.