من يعرف جان كوكتو؛ المبدع الشامل أو الكلّي، في الشعر والرسم والرواية والسينما، يعرف أن فيلمه "أورفيوس" أو "أورفيه" المصنوع في العام 1950، هو واحد من أعظم الإنجازات السينمائية في القرن العشرين. وبالنسبة إلى أجيال تالية، تعيش في أزمنة رديئة انحطاطاً ثقافياً وفكرياً، فإن الفيلم يشكّل صدمة تفتح العيون على اتساعها، أو تُغلقها تماماً، من أجل تنشيط وسائل أخرى للحسّ أو للحدس. يتحدّث "أورفيه" عن قوّة الإيمان لا المعرفة، كما لو كنّا أمام تساؤلات دينية أو صوفية عميقة. ومع أن الفيلم بعيد عن الدين، إلا أنه يبغي الغاية نفسها: البحث عن العوالم الأخرى أو الارتفاع إلى عوالم الشعر أو الخيال.
في الفيلم يتساءل القضاة: ماذا يعمل أورفيوس؟ فيجيب: شاعر. لكن البطاقة الشخصية تقول: كاتب. ويفسّر أورفيوس هذا الإشكال الظاهري على الشكل الآتي: "إن الشاعر هو من يكتب، لكنه لا يجيد الكتابة". وهذه مفارقة تعيدنا إلى إشكالية "خاصة" في التاريخ العربي؛ إذ اتهمت قريش محمّداً بأنه شاعر؛ وهو الأمّيّ. يكرّر كوكتو في فيلمه "أورفيه"، وكذلك في أفلام سابقة ولاحقة، هذه الإشكالية القديمة - الجديدة أبداً، وهو يشير إلى ترابط الشعر والرؤيا الماورائية. وفي معنى من المعاني، فإن الشاعر يُعمّد هذا العالم أو يُقدّسه في غياب الأنبياء والكهّان الكبار، أو يعطيه المعنى والعمق (بكلمات معاصرة).
بحث الشاعر، بحسب كوكتو، لا يمكن إلا أن يكون واقعياً جداً أو فوق واقعي، حتى وإن بدا مضحكاً أحياناً، أو مثيراً للإزعاج أحياناً كثيرة.
وهكذا فإن فيلم "أورفيه" يبدو ممزّقاً تماماً بين موضوعَين أثيرين جداً لدى كوكتو، ولدينا أيضاً؛ ونقصد الأسطورة القديمة نفسها، والتي لن ينفكّ الكتّاب والفنّانون عن العودة إليها أبداً، ودور الشاعر في العالم المعاصر: عالم ما بعد نهاية الحرب الثانية وفظائعها، التفجيرات الذرّية وتهديدها المستمرّ والدائم لبني البشر، الانقسام العالمي بين معسكرَيْن متخاصمَيْن والحرب الباردة بينهما (في ذلك الوقت بالطبع).
جميع هذه الأشياء يشير إليها الفيلم بسرعة ورمزية وغموض، وكأنها نوع من الأقدار الخفيّة، أو المحتملة التي يعيش الشاعر المعاصر تحت سطوتها. يلجأ الشاعر - الرسّام - السينمائي جان كوكتو، إلى أساليبه الخاصة، ويبتكر تقنياته (وخدعه ومؤثّراته) الجديدة في وقتها (والمقنعة حتى بعد نصف قرن)؛ وخصوصاً الانتقال عبر المرايا بين عوالم الأحياء والأموات، الاستفادة من المواقع المهجورة والخربة باعتبارها المكان الملائم للعالم الآخر: مملكة الموت.
أما تصويره المنيّة بصورة أميرة فاتنة، غامضة، تهتمّ بالشعر والشعراء، ويصحبها جلاوزتها أو ملاكا الموت، على الدرّاجات النارية، فهو تصوير عصري جداً؛ رائع ومُغرٍ في الوقت نفسه. وإن كان أورفيوس يغازل الموت ويتحرّش به عبر شعره، فإن المنيّة نفسها تبدو مغرمة به، وتفتعل الحوادث - خروجاً على الأوامر المعطاة لها - لتظفر به بطريقة ما. هذا الإعجاب (أو الحبّ) بين الشاعر والموت: باب العالم الآخر، ما هو إلا مجاز "دقيق" أو ميتافور، عن بحث الشاعر الأزلي عن عوالم أخرى أو عن رؤى.
لنتأمّل أورفيه في الفيلم في سيّارة الـ"رولز رويس" العتيقة - تاركاًً زوجته الحبيبة وطفله المقبل قريباً - بانتظار إشارات المورس والكلمات العادية المكرّرة؛ هذه الكلمات التي يعتقد أورفيه أنها أهم من كلّ الشعر الذي كتبه وصنع مجده الأكيد بين الناس. لنتأمّل صديق أورفيه؛ الشاعر الذي صمت من زمان بعيد، وكتب ديوانه الجديد "التعرّي"، كي نرى صفحات "بيضاء" عارية من الكلمات؛ صفحات مُلئت بالفراغ فقط؛ الفراغ الذي نستعمله عند الحديث؛ الفراغ الذي يُعطي معنىً أو موقفاً لكلماتنا أو أصواتنا.
ربما يقول كوكتو إن العوالم الأخرى تأتي للساهرين في انتظارها، للذين يشقّون حُجُب الليل وأستار التعوّد. وفي الكتاب المقدّس، يُشبّه مجيء الربّ، أحياناً، بمجيء السارق... وهذا منتهى التطرّف. والمقصود به أن يكون الإنسان ساهراً، متخفّراً، متحفّزاً... مثلما سيسهر بالتأكيد ويتحفّز للقاء السارق وقتاله.
إن الرؤيا أو الصوت، يستحقّان بالتأكيد أن ننتظر أو ننعزل... أو نتصرف بغرابة أحياناً. والتاريخ الديني للبشرية يعلّمنا أن الأنبياء والمؤسسين الدينيّين في الأوقات كلّها، عاشوا بغرابة وصعوبة، وعزلة أحياناً، استعداداً للرؤيا أو الوحي. وإذا كان الشاعر المعاصر بعيداً عن الوحي والنبوّة، فإنه طالب رؤيا بالتأكيد؛ رؤيا في عالم متطرّف بتقنياته المباشرة والمريحة، متطرّف بصخبه وهمومه اليومية الساحقة؛ رؤيا في عالم متطرّف في سطحيّته وانحطاطه... حتى لكأنه إنتاج تلفزيوني طويل، رخيص ومكرّر ولا نهائي.
هذا العالم "المعاصر" هو أبعد ما يكون عن الشعر والشعرية - التي هي حالة البين بين؛ عندما يتماس عالم واقعي وعالم آخر: غير واقعي. وفي زمن الأنبياء، وفجر الأديان كان التماس بين الأرض والسماء كبير - هذا التماس الذي كان يصل إلى حدّ التداخل وتبادل الأدوار أحياناً. وهو ما يعبّر عنه بدّقة وشعرية عالية، الكاتب العظيم كازانتزاكيس في رواية "الإغواء الأخير للمسيح"، حيث نقرأ: "الأرض تشتاق إلى السماء، والسماء تشتاق إلى الأرض بقوّة أكبر. وتنفتح أبواب السماء - مراراً - ليتجلّى مجد الربّ وعظمته السرمدية… وكذلك حبّه اللامتناهي".
كوكتو يعيد قراءة الأسطورة؛ المنيّة التي تُحبُ الشاعر، تُضحِّي - في النهاية - بنفسها، من أجل استمرار الشاعر في العالم الواقعي: فهو الرسول وهو الشاهد، لأنه رأى... أو يرى - دائماً - من غير عيون.