أعادت ثورة العلم والمعرفة والاتصالات تعريف العالم، وأحدثت تغييرات في المفاهيم قبل الإشكال ولا أكاد أرى مفهومًا لم يعتريه التحول والتغيير بسبب هذه الزلزلة الكونية.
وإذا كانت مصطلحات، مثل مجرد وملموس وافتراضي تجد لها معنى محددًا في الخريطة الدلالية للكتابة والتفكير فيما سبق هذه الثورة، فالأمر لم يعد مثلما كان قبلها.
ففكرة أو عقيدة سياسية واجتماعية مثل القومية العربية كان يسهل الحوار حولها من مداخل الجغرافيا المشتركة والتاريخ المشترك والمصير الخ، لكنها الآن بعد الانهيارات الهائلة والتفكك الذي أصاب مراكز إنتاج الأيديولوجيا والقناعات الكبرى في العالم. اصبح الناس يحتاجون لإعادة النظر في مفاهيم الجغرافيا والتاريخ لأن أيديولوجيا «العبور» المهيمنة صارت هي المدخل الأوسع لاستيعاب التغييرات في البناء الجيوبوليتيكي للفضاءات السياسية والاجتماعية والثقافية.
فثمة شركات ونظم وخطابات عابرة للأمم والقوميات والثقافات صارت أكبر أثرًا وأعمق تأثيرًا من كل الاحتمالات والأماني والخطط التي صاغها الفكر القومي العربي في أقانيمه الثلاث الشهيرة الوحدة والحرية والاشتراكية.
ومعادلات السوق وإنتاج السلع وإدارتها ودورة رأس المال صارت مركزًا جديدًا لإدارة المنفعة على سبيل المثال. وليس الضرورة التي يمليها تكامل القدرات والموارد حسب المانفستو القومي.
ما كان ملموسًا وضروريًا مثل وحدة الموارد العربية وتكاملها تحول إلى شيء افتراضي، بينما ما كان افتراضيًا في السابق- عبور المصالح ورؤوس الأموال للحدود والأمم والتكوينات والقوميات- صار ملموسًا وحقيقيًا وفاعلاً.
مما لا شك فيه أن ثورة الاتصالات ألغت الحدود في دلالتها الجغرافية، لكنها لم تساو كل مدن العالم وأصقاعه في الأهمية، فلندن ظلت لندن وفرانكفورت ظلت كما هي ومدن الفقر والبؤس ظلت كما هي بائسة وفقيرة وغير مؤثرة.
ويبدو ذلك واضحا في أن مفاهيم مثل الأقرب والأبعد، والممكن وغير الممكن، خضعت هي أيضًا لهذه الزلزلة المفاهيمية، فالحدود المشتركة بين بريطانيا ودول أوروبا والمصالح والمصير المشترك الذي كان الأساس الذي صاغ على أساسه عرابو الدستور الأوروبي، تحول إلى حلم بعيد المنال يكافح الرؤساء للحفاظ على جذوته، بينما عبرت بريطانيا بثقلها إلى الولايات المتحدة لتصوغ مانفستو جديدًا لطموحاتها ومصالحها مما كان يعتبر افتراضيًا.
المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، في الكتاب–المحاضرة «في مديح الحدود» الصادر حديثًا بترجمة ديمة الشكر، مع مجلة «الدوحة» وهي محاضرة أُلقيت في البيت الفرنسي- الياباني في طوكيو، في 23 مارس- 2010. يفند دوبريه منطلقات أيديولوجيا العبور، بل يسفهها حاشدًا كل الحقائق والمجازات التي تؤكد أن الحدود حق، وأيديولوجيا العبور باطل لا مراء فيه.
أرض ولغة
يخاطب دوبريه الحضور في مستهل المحاضرة قائلاً: «نحن دولة لا حدود لها»، قال لي أحدكم ليس من دون بعض الفخر والزهو. وقد كَنَّ لكم كلوديل الضغينة بسبب هذا إذ قال: «أيها اليابانيون قد كنتم سعداء جداً في حديقتكم الصغيرة المغلقة». وكان ذلك قبل أن تخرجوا بوحشيةٍ من الحديقة كي تغزوا آسيا، ثم تُعاقبوا على ذلك بوحشيةٍ أيضاً في عام 1945. لكنّ جنّة عدن هذه التي أُحيلت رماداً، عرفتم أنتم كيف تعيدون بناءها بالروح من بعد هيروشيما بأكلاف جديدة. فقد تعلّمتم من أقصى الغرب كيفية خلق أقصى شرقٍ حديثٍ، لكن مغاير للغرب الأميركي. لا أعلم إن كان هذا مديحاً لكم، لكني لا أرى أحداً أكثر حذقاً من الياباني المعاصر في فنّ الغربلة ونخل كلّ الأمور الوافدة. وأكاد أقول إنكم لستم بحاجة للأسلاك الشائكة، ولا للكوتا، ولا للرقابة، لتنقية وفلترة ما يرد من غذاء من الأزرق الواسع: السمك النيّء، وحروف الكتابة، والشوارع الخالية من العناوين، والأديان المتشابكة، وعباءات الكيمونو، تؤلّف كلّها، تحت سطحٍ فائق المعاصرة ومن دون عقد نقص، نسيجاً من الخيوط الدقيقة لكن المقاوِمة بصورةٍ تبعث على الانبهار والدهشة.أمّا أنا، فقد أتيتُ من أرضٍ صلبة، خَدَّدها كلّها التاريخ. أتيتُ من أوروبا المتعبة بسبب حركتها الدائمة لزمنٍ طويل، أرضٌ تفكّر في العطلة، وتحلم بمجتمع الرعاية والعناية. وقد جاهد ساستها لمحو حدودها اللغوية لصالح لغة موحدة هي الـ «غلوبيش»، التي لا تحمل من الإنجليزية سوى الاسم.
يعيد دوبريه في محاضرته فكرة الحدود من وقائع الأرض إلى تجريدات الذهن والفكر فيقول: بما أن «الخريطة هي انعكاس للذهن قبل أن تكون صورة للأرض» وفقاً لقول كريستيان جاكوب، فإن الحدود هي قبل أي شيء، مسألة فكرية وأخلاقية. فهذا شأن الكائنات البشريّة. أمّا الحيوانات الأخرى فتتخذّ لنفسها مساحة خاصّة، من خلال أثرٍ وسيطٍ إمّا شمّي أو سمعي. حدودٌ متغيرةٌ وغائمةٌ، بارحة سانحة وفقاً للفصول، ووفقاً لعلاقات القوّة بين الأجناس والشعوب. أمّا نحن، فعلينا أن نؤسس: نزرع العلامات، نرفع الشعارات. فالثدييات القلقة (مثلنا) تقتطع مسكنها من المحيط الحيوي (قسم من العالم يتيسَّر فيه الوجود والحياة)، وركنها الزراعي من الطبيعة عن طريق الرموز.
ويعتبر دوبريه أن العبور، وهم مثالي تسفهه الوقائع: من المؤلم الاعتراف بالعالم كما هو عليه، ومن الطريف أن نحلم به مثلما نتمناه. فنحن جميعنا نفضل حبة الفاليوم على القلق، ومن هنا ميلنا إلى العالم الذي لا حدود فاصلة فيه، هذه الترنيمة المهدهدة للأطفال- العجائز المدللين. عالمٌ كهذا، أذهبُ أنا إليه طوعاً كهروب إلى الأمام. هو حلم لكن بعيون مفتوحة، يهدف مثله مثل أخيه البكر، الحلم الليلي، إلى إشباع رغبةٍ مكبوتةٍ ممنوعةٍ. ساعة قبل الألفية، فيها نداعب كوكباً أملس، كوكباً تخلّص من الآخر، كوكباً لا مواجهات فيه، كوكباً عاد إلى عهد براءته الأولى، وإلى سلام صباحه الأول، كوكباً يشبه قفطان المسيح الذي لا خياطة فيه. أرضٌ مشدودة الملامح، وكل الندوب ممحوّة من سطحها، وعنها اختفى الشرّ بمعجزة.
ويلتجأ دوبريه إلى لغة الأرقام ليكشف المفارقة بين إرادة صائغي أيديولوجيا العبور، ووقائع الإغلاق اليومي على مستوى العالم: لم يتم رسم حدود على الأرض بقدر ما تمّ خلال الخمسين سنة الماضية. سبعةٌ وعشرون ألف كيلومتر من الحدود الجديدة تمّ ترسيمها منذ عام 1991، في أوروبا وفي أوروبا الآسيوية على وجه الخصوص. وزيادة على هذا، فقد تمّ إعداد برامج لوضع عشرة آلاف حائطٍ وحاجزٍ وسياجٍ متقن الصنع ومستنفذ في خلال السنوات المقبلة. وقد استطاع الجيوسياسي والباحث ميشيل فوشيه أن يحصي بين عامي 2009 و2010، ستاً وعشرين حالة من النزاعات الحدودية الخطيرة بين الدول. الواقعُ هو ما يقاومنا ويهزأ من مشاريعنا الوهمية. أحفورةٌ بذيئةٌ هي الحدود، ربما، ولكنها تتحرك وتتلوى مثل شيطانٍ جميلٍ ساحر. يمدّ لسانه ساخراً من غوغل إيرثGOOGLE EARTH، ويضرم النار، يوّلعها في السهول وفي الأمكنة المستوية: البلقان، آسيا الوسطى، القوقاز، القرن الإفريقي وصولاً إلى بلجيكا الهادئة.
عالم مغلق
ويضيف دوبريه ساخرًا من فكرة العبور والأفكار المرتبطة بها: ظنّ العقل الجهبذي لمسقط رأسي، في المحافظة التي وُلدت فيها، أن إبدال عبارة أراغون HOURRA L›OURAL بـ «فلتحيا مدينة العالم»، هو تقدُّم مؤكَّدٌ نحو الأمام. وأخشى أن تكون عودة المكبوت إلى الوعي قد فاتته. فهو يدمن الـ LIGHT، وما هو خفيف، ويتغنّى بالتيه، وبالحركة الكوكبية الجديدة. لا يقسم إلا بالـ TRANS أي التجاوزي وبالـ INTER أي البيني، أي بما هو خارج وما هو بين من الحدود، ويجعل المترّحل والقرصان مثالاً يحتذى، ويعظّم ما هو أملس رقراق «لا تضاريس فيه» وسائلٌ (المياه)، في الوقت الذي تعاود الحدود المشتركة والموروثة من عهد روما القديمة والقرون الوسطى الظهورَ في قلب أوروبا، وحيث تدعي حدود مناطقية تافهة ولا قيمة لها وموجودة أمام بابه، أنها حدودٌ وطنية. فكلٌ يشيدُ بالانفتاح، بينما تُضاعف صناعة الإغلاق (اللواقط الحرارية والنظم الإلكترونية) رقم أعمالها بعشرة أمثال. عالم الاستعراض والفن الـ SHOW-BIZ، يترنّم بمقولة «عالمٌ واحدٌ فقط»، بينما ازداد عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم أربعة أضعاف عما كانه قبل إنشائها. يتسّع أفق المستهلك، بينما ينكمش أفق الناخبين. وبينما يطغى كالمانترارنين مصطلح (نزع صيغة الحدود عن الأراضي) أو (اقتلاع الحدود) في مؤتمراتنا، فإن القانون الدولي يضع الحدود للبحار- التي كانت مشاعيةً سابقاً- ويؤقلمها ضمن ثلاث مناطق مميزة (المياه الإقليمية، المناطق المحاذية للشواطئ، ومناطق الامتياز الاقتصادي). الاقتصاد يتعولم، أمّا السياسية فتغدو مناطقية. وبوجود الخليوي والـ GPS (برمجية التموضع الجغرافي) والإنترنت، أضحت البلدان المتعامدة جيراناً لنا، لكن الجيران الذين يقطنون البلدة نفسها أي الـ TOWNSHIP، يستلّون سكاكينهم ويقتل بعضهم بعضاً بضراوة. هذا هو التفاوت الكبير! مفارقة فظيعة هائلة. إذ نادراً ما شاهدنا، في تاريخ السذاجة الغربية الطويل، فجوةً كهذه بين طرق تفكيرنا وحقيقة الأمور. بين ما نظنّه أمراً مرغوباً فيه وبين ما هو عليه في الواقع. بين ما يقال في الأممية الجامعية للمفكرين الأورو- أميركيين- هي البديل الهزيل عن الأمميات العمالية التي اندثرت- وبين ما يسود في حلبة مصارعة كوكبنا. في الولايات المتحدة، بعد الحرب، كان ثمة ملاجئ مضادة للقنابل الذرية. الأنتلجنسيا الما بعد وطنية- التي تسمى خطأً نقدية وراديكالية- تقدّم لنا ملاجئ مضادة للواقع، من خلال منظّرين من أصحاب المعرفة الواسعة لكن قليلي الخبرة. راديكاليون؟ فلنحاول أن نكون كذلك، لكن من خلال العودة إلى الجذور. أيُّ واقع نرغب في تجنّبه عندما نهرب نحو التفكير الرغائبي (المرتجى) الـWISHFUL THINKING، ونلوّحُ بالكلمة- التميمة، هذه الذريعة السهلة، التي تعفينا من تبعات رغباتنا لما نريده؛ أي التنوع؟. نرغب في تجنّب واقعٍ عنيدٍ يصفعنا عند كلّ مرة ننسى فيها وصية جيوزيبي فيردي الطليعية: «العودة إلى القديم ستكون تقدّماً». ونرغب في تجنّب عبثيةٍ جدّ ضرورية، ولا يمكن التغاضي عنها، ألا وهي: الحدود.
الحدود ومجاز الجلد
ويقدم دوبريه مراجعة للبعد الفلسفي واللغوي لفكرة الحدود:
جميع أصول الكائن الحيّ يكتنفها الغموض: فهي جذابة ومنفرة؛ مقدّسة وواقعة بين فتحتي باب البدن. إنها قاعٌ وكهف (مَدفنٌ ومخدعٌ). الحدّ كذلك هو ثنائي القيمة. فهو محبوبٌ ومكروهٌ، وهو «سام وملعون»، مثلما وصف الصيني لو كسونLU XUN سورَ الصين العظيم؛ فهو يردع العنف ويبرّره. يرسي السلام أو يطلق شرارة الحرب. يكبح ويحرّر. يفرّق ويجمع، شأنه شأن النهر (نهر الراين أو الدانوب مثلاً)، يربط ويفصل في آن معاً. كذا، فإننا نشتق من لفظ LIMEN باللاتينية، لفظين هما؛ التوطئة LIMINAIRE والتمهيد PRÉLIMINAIRE. فهي (أي الحدود) العتبة والحاجز في الوقت نفسه، مثلما أن لفظ LIMES بالفرنسيّة يعني الطريق والحدّ كذلك.
ويخلص إلى استعارة مدهشة هي مقاربة فكرة الحدود إلى الجلد من الكائن الحي:
يقول فاليري: «إن ما هو أكثر عمقاً لدى الإنسان، هو الجلد». إذ تتطلّب الحياة الجماعية كما الفردية فسحةً أو مساحة للفصل. التغليف يأتي أولاً، ثمّ يليه العمق. تماماً كما في الدوائر المالية.
المادة لا غلاف لها ولا جلد. والخلية فقط لها غشاء أو غلاف. فحقيقية النواة لها غلافان: واحد حول النواة، وآخر حول الخلية. والجلد هو العضو الأوّلي في علم النشوء المتوالي للجلد، إذ هو أوّل ما نتعرّف عليه لدى الجنين. فالكائن الحيّ يستطيع أن ينمو ويتشكل من خلال تمتعه بطبقة عازلة، لا يكون دورها في المنع بل في تنظيم التبادل بين الداخل والخارج. فلا توجد حشرة من دون كيراتين، ولا شجرة من دون لحاء، ولا بذرة من دون غلاف ثمرة داخلي، ولا بويضة من دون طحرة، ولا برعم من دون جليدة.
النظام الحيوي هو سطح منطوٍ على نفسه، ونموذجه المثالي هو الشكل الكروي، فقاعة أو كرة، وقريتنا أو مسقط رأسنا، هو مادة بديلة بثلاثة أبعاد: غمد (قراب)، سنفة، أو صدفة. فنحن نعود كلّ مساء إلى هذا التجويف المناعي، عندما نتسلل تحت لحاف الريش هذا، ونغلق منافسنا. البقاء على قيد الحياة هو المحافظة على ثنيات المرء وطياته.
https://www.dropbox.com/s/qyctzceqhka6cry/%D9%81%D9%8A%20%D9%85%D8%AF%D9%8A%D8%AD%20%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF%20-%20%D8%B1%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%B3%20%D8%AF%D9%88%D8%A8%D8%B1%D9%8A.pdf