إنني
والخطيبي نهتم بأشياء واحدة، بالصور، الأدلة، الآثار، الحروف، العلامات
وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديداً، يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه
الأشكال، كما أراها يأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني
في الطرف الأقصى من نفسه.
رولان بارط
الخطيبي واحد من السوسيولوجيين المغاربة الذين تنطبق عليهم واقعة الهجرة في
اتجاهين: من و إلى، فقد هاجر إليها في البدء حبا و التزاما، و مارس هذا
الالتزام بكل امتلاء في رحاب معهد السوسيولوجيا المغتال خطأ، لكنه هاجر
منها، و دون أن يرسم القطيعة، إلى مسارات الأدب و التحليل النفسي و الفنون
التشكيلية، فليس هو بذاك الذي تسرقه السوسيولوجيا من قلمه. إنه المتعدد و
اللا نهائي، راغب أبدا في الفهم و بلوغ المعنى، و لأجل ذلك فلا مناص من
امتشاق كافة دروب القول اللذيذ.
يعد الخطيبي ابنا شرعيا للمغرب العميق، فلم تنجبه بيوتات فاس المخملية، بل
نشأ في أحضان دكالة بالجديدة سنة 1938 ، و منها اختار الانتماء إلى قارة
علم الاجتماع متوجا مساره الدراسي بالحصول على الدكتوراه من جامعة
السوربون سنة 1969 ، ليعود إلى المغرب و يمارس التدريس الجامعي بكلية
الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط, بعدما خبر قبلا محنة
إغلاق معهد السوسيولوجيا, ليتوج مساره المهني بمنصب المدير العام للمعهد
الجامعي للبحث العلمي.
الخطيبي لا يجد معناه إلا في رحاب الكلمة لهذا انشغل بتوسيع دوائر النقاش
منذ البدء، فقد كان يدير مجلة علامات الحاضر، كما كان يرأس تحرير المجلة
المغربية للاقتصاد و الاجتماع، و لعل هذا الانشغال العميق بالحرف و السؤال
هو ما جعله يفوز بعدد من الجوائز و يحظى بتكريمات مستحقة، فقد فاز بجائزة
الأدب في الدورة الثانية لمهرجان "لازيو بين أوروبا والبحر الأبيض المتوسط"
في ايطاليا, عن مجمل أعماله الأدبية وتجربته التي انطلقت أواخر الستينات
من القرن الماضي, وذلك لمساهمته في خلق لغة أدبية وطنية ومستقلة في مجال
العلوم الاجتماعية, والتزامه بقضايا المساواة الثقافية والتنوع الفكري
بالمغرب.كما حصل مؤخراً على جائزة "الربيع الكبرى" التي تمنحها جمعية "أهل
الأدب", الفرنسية، و ذلك عن مجمل أعماله الشعرية .
رحل الخطيبي إلى دار البقاء، لكنه لم يرحل من بين ظهرانينا، فآثاره
الإبداعية ما زالت تسائل الزمن المغربي، و ما زالت تشع أسئلة و مقاربات،
لهذا سيظل حاضرا في أعماق مدمني الحرف و السؤال، بنقده المزدوج و ذاكرته
الموشومة، يعلمنا كيف يكون الانتماء و كيف تستمر الحياة و لو في عز التهميش
و الإقصاء، فلقد جرب الرجل ما معنى أن تكون معرفتك مرفوضة و محاربة من طرف
صناع القرار، لقد جرب كيف تتهاوى الأحلام بقرار جائر صيغ على غير مهل في
الأجندة السياسية الأمنية، و مع ذلك لم يقدم الاستقالة، و لا استكان للغة
الصمت، بل استمر في الكتابة و الانهراق مع تفاصيل المعنى بحثا عن كيمياء
الحياة الاجتماعية لمغرب عصي على الفهم و التأويل.
عندما يموت أحدهم من آل السياسة أو الفن أو الرياضة، تمطرنا وسائل الإعلام
الرسمية و غير الرسمية بسيل من الروبورتاجات و البورتريهات التي تذكر
بمناقب الراحل، لكن في اللحظة التي يرحل فيه المثقف تفتر درجات الاحتفاء، و
يصير النعي مجرد خبر ثانوي تكمم به النشرة، كما حدث مع القناة الأولى التي
آثرت أن تجعل خبر وفاة الخطيبي الخبر الأخير في نشرتها الطويلة التي تفوق
الساعة.
أحد المبدعين المغاربة تساءل قبلا بكل مرارة: هل الجحود صناعة مغربية؟ فنحن
لا نتذكر مبدعينا إلا عندما يشتد الألم و يأتينا الخبر اليقين، خبر الموت
طبعا، حينها نتذكر أن الراحل كان علما من أعلام الفكر و الثقافة، أما لحظة
حياته فقليلا ما ننتبه إليه و نعترف به، إنها حكاية مغموسة في الجحود تتكرر
باستمرار مع الكبار، أما الفقاعات الهوائية من أشباه المثقفين فتعرف جيدا
كيف تسوق نفسها في الحياة قبل الممات.
الخطيبي لمن لا يعرفه كان يؤدي ضريبة الانتماء إلى السوسيولوجيا في صمت،
كان في "ثلاجة" بلغة الإدارة، يدير ما يسمى بالمعهد الجامعي للبحث العلمي
في بلاد لا تريد الاعتراف بأهمية البحث العلمي في التخطيط و البناء
الاجتماعي، و أساسا في بلاد لا تخصص سوى 0,03 بالمائة من الناتج الداخلي
الخام لهذا البحث الذي يفهم خطأ على أنه بحث مخبري و تقني و عسكري بالدرجة
الأولى، بمعنى أن البحث في العلوم الاجتماعية لا يفيد شيئا من هذه النسبة
المخزية.
لقد كان يعتصر ألم السوسيولوجيا المغربية في صمت، كان يعتصر مأزقية الوضع،
يبحث عن إجابات شافية للمآل الملتبس و الملغز، يحاول أن يفهم ما يحدث،
يكتفي بالتأمل ، و يستمر في الانكتاب ضدا على كل أوضاع التهميش و التبخيس.
يرتحل من قارة إلى أخرى، ينتج نصوصا بعبق أدبي فلسفي عميق، و لا يمل من
انتظار غبش صبح قريب.
لهذا كله لم و لن يرحل الخطيبي، بل سيظل علما بارزا في المشهد الثقافي
المغربي ضدا في كل تجاهل قصدي أو عفوي، لأنه كان يعمل بالقاعدة
الكونفوشيوسية البهية: أترك أثرا، فقد خلف آثارا مهمة في صنوف معرفية شتى،
لقد رحل في صمت مالح، كما الكبار دوما، رحل واقفا كما الأشجار، تاركا وراءه
أعمالا مهمة تؤكد إبداعيته و أصالة منجزه الفكري. فالكبار لا يرحلون
- الكود:
-
http://www.mediafire.com/?jhz2osc0a4domtj