كان هنري مورغان ، يسبغ أهمية خاصة على الطريقة التي يتم فيها إستخدام الكلمات في تصنيف الأفراد ، المرتبطين بروابط النسب وبرأيه فـإن النظام الخاص بمصطلحات القرابة ( أب ، أم ، عم ، خال ، أخ ، أخت ) هو من الراسب الثقافي الكوني ، الذي تشترك فيه سائر الجماعات البشرية بإختلاف مستويات تحضرها ( أو درجة وحشيتها ) ولكي توجد بنية قرابية لا بد من وجود ثلاثة أنماط من العلاقة العائلية : علاقة سلالية ، علاقة مصاهرة ، علاقة نسب .
على خطى مورغان يسير لوي ( المجتمع البدائي : 1920 ) باحثا عن جذور العلاقة الملتبسة بين الخال وأبن أخته ، وهذا ما سوف يفعله ، تاليا ، راد كليف براون و.ج جودي ( في الخال وأبن الأخت في غرب أفريقيا : 1959 .
في هذا الإطار كتبت جيرمين تيليون “الحريم وأبناء العم : تاريخ النساء في مجتمعات المتوسط : 1966 ” ، ساعية بين تدني المرأة في هذه المجتمعات ، ووجود بني قرابة داخل القبيلة تسمح بنمط وحيد ، تقريبا من الزواج هو “الزواج الداخلي” حيث ترغم القبيلة أو الأسرة ، أبن العم على الإقتران بإبنة عمه . إن قارئ جيريمين تيليون يمكنه ببساطة أن يكون طرفا في ( كتابة ) هذا الكتاب حين يعطي لنفسه الحق في تقديم الأدلة والقرائن الميدانية والحياتية عن وجود مثل هذه العلاقة بالفعل ، وذلك بالطبع ، عبر إستذكار كل ما يعد حوادث ووقائع يومية كانت فيها المرأة عرضة لتدهور مكانتها .
سنوات في ضيافة القبائل
تكمن أهمية مساهمة تيليون ، الكلاسيكية هذه في أنها واحدة من أفضل المحاولات المبكرة في السويسلوجيا الأوروبية لتقديم عمل أثنوغرافي ووصفي ودقيق لمجتمعات شمال أفريقيا ، حيث أمضت تيليون في ضيافة القبائل العربية على إمتداد الأطلسي وساحل المتوسط أجمل سنوات عمرها 1930 . 1940 ، ولكن الأهم من ذلك يكمن هنا : إن كتاب الحريم وأبناء العم ، يقوم فعليا بإخراج الظاهرات الإجتماعية الكبرى ، مثل قتل النساء في جرائم الشرف ، من حيز تلطيخ الإسلام الذي إعتاد عليه المخيال المسيحي الغربي ، إلى حيز الظاهرة الإجتماعية المتوسطية ، سواء كانت تخص مجتمعا مسيحيا أم مسلما . تلاحظ تيليون أ، ثمة علاقة بين ( الزواج الداخلي ) الذي تفرضه القبيلة ومسألة الإرث ، وفي تحليلها لمواد جمعتها من إقامتها في منطقة الأوراس حين عملت هناك ما بين 1932 حتى 1940 ارتأت تيليون أن المغرب العربي الكبير يتميز بثلاثة أنواع من التطور في باب الإرث النسائي .
1. الدرجة التي يجري فيها تطبيق تعاليم القرآن الكريم عند أناس ورعين أتقياء من البدو الرحل أو عند مجموعات ذات نسب أمومي .
2. الدرجة التي لا يجري فيها تطبيق القرآن الكريم ، وذلك بحرمان النساء من الأرث والتحايل على جعله وقفا أو ما يعرف في القبائل الرحل ب”الحبس” تلاحظ تيليون في صدد هذه النقطة أن “الثورة القرآنية” تتجلى في القسمة التي فرضها القرآن للإناث ، بوصفها صراعا ضد الدناءات التي عرفها مجتمع الجاهلية ورفعا لشأن المرأة ، وبرأيها فإن تعاليم القرآن بخصوص قسمة الإناث من الإرث “في الوقت الذي نزل فيه القرآن . كانت . التشريع الأكثر تسوية للعالم المتحضر ” .
3. الدرجة التي ينعدم فيها تطبيق التعاليم القرآنية ، ولا يوجد فضلا عن هذا حبس للميراث أي حدوث مصادرة علنية ومكشوفة لحق الإناث في الإرث .
الزواج الداخلي
طبقا لهذا الإستنتاج الذي خرجت به تيليون ( قبل زهاء 60 عاما عندما كانت تعمل كاثنوغرافية في الصحراء العربية . الأفريقية ) ، فإن ثمة صلة وطيدة وعميقة الأثر بين وجود نظام “الزواج الداخلي” الصارم الذي يفرض على فتيات القبيلة الإقتران بأبناء القبيلة ، ومسألة الإرث والإحتفاظ بالأرض و الممتلكات وبالتالي فإن تعطيل أحكام القرآن في هذه الحالة يتعلق ب”الزواج الخارجي” الذي تنجم عنه ولادات مطالبة بالإرث ، أي خروج الأرض والممتلكات عن سيطرة القبيلة وإنتقالها إلى أيدي غرباء من نسب آخر ( هو بالضرورة نسب الأم ) وبهذا المعنى تدرس تيليون الصلة بين تدهور وتدني مكانة المرأة ، من منظور مختلف تماما عن منظور الإستشراق ( المسيحي 2الغربي ) المسكون بهاجس “نقد الإسلام” أو تجريحه ، لتنقل المسألة برمتها من حيز ( المناكفة ) التقليدية إلى حيز التحليل العلمي .
إن بعض إستنتاجات الكتاب حول مسألة الحجاب مثلا . تبدو عديمة القيمة تماما لا لان زمنا طويلا مضى منذ أن صدرت هذه الملاحظات ، وإنما بدرجة أكبر بسبب نمتيطها ، فهي تنصب في الغالب الأعم ، في سياق الإشارة إلى ما يدعى في الأدبيات الإنسانية الغربية ب”حجب النساء” مع أن هذا الحجب لا يتصل بنوع اللباس ، ففي سويسرا ، كما تلاحظ تيليون نفسها ، لم تنل النساء حق التصويت إلا في وقت متأخر ، كما أن فرنسا كانت ، وحتى وقت قريب تعمل بقانون قديم يمنع النساء من تملك الأرض بالميراث ، أو الصعود إلى العرش الملكي . وفي 1918 لم تكن هناك امرأة واحدة لا في الحكومة الفيدرالية ولا الإقليمية في كيبك الكندية الفرنسية . ومع هذا فإن الفضائل الأساسية في أطروحة تيليون حول الحجاب ، وعلى الرغم من أنها صدرت في عام 1966 ، تكمن في الإحالة الدقيقة إلى التاريخ القديم والبيئة ، بعيدا عن الصورة النمطية للإسلام ، ذلك أن حوض البحر الأبيض المتوسط برمته عرف أنواعا متنوعة من “الحجب” من جنوب فرنسا ومرورا بإيطاليا حتى سواحل اليونان وكورسيكا وأسبانيا والبرتغال ، أي قلب العالم المسيحي المتوسطي برمته . هذا العالم الذي كان وإلى وقت قريب فقط يصاب بالذعر لمرأى سيدة أو شابة تدخل الكنيسة من دون أن يكون شعرها مغطى ولو بمنديل وبصدد هذه النقطة تورد تيليون نصا مأخوذا عن الرسالة العاشرة التي وجهها القديس بولس لأهل كورنثيا ، يحض صراحة على وضع علامة خضوع على رأس المرأة ليست ( علامة الخضوع ) هذه سوى غطاء الرأس أو الحجاب المسيحي في صوره الأولى ، القديمة والبدئية .
بيد أن تيليون لم تلاحظ ، للأسف أن جذور هذا التقليد المسيحي تنتسب إلى العهد القديم ، إذا عرفت الديانة اليهودية نمطا من الحجاب إرتبط بسبط يهوذا حصرا . وبالعودة إلى التوراة ، كان سيتوفر لتليون نص آخر أكثر تعبيرا عن جوهرة فكرتها هذه ، لأن تامارا في سفر التكوين إرتدت الحجاب ، لكي تتمكن من حمل والد زوجها يهوذا على إنجاب نسل لأبنه المتوفى ، أي أنها قامت بعمل يندرج في إطار غشيان المحارم ( حيث يفضي الزواج الداخلي إلى حدوث مثل هذا الإنتهاك ، بما أن إبنة العم هي أخت من جهة النسب الأبوي ) ، وبهذا يمكن الإستنتاج أن الزواج الداخلي هو نظام قرابي قديم ، يهدف إلى حماية القبيلة من الإنقراض وإن الحجاب في السياق كان يرتبط بطقوس وعقائد دينية كبرى كانت سائدة في بابل ومصر القديمة ( نظام القادشة في بابل وهي المرأة المتحجبة ) ، ويبدو أن بني إسرائيل إستعاروا في وقت ما من السبي البابلي . هذا التقليد .
على أن تيليون رأت بذكاء نادر أن مجتمعات المتوسط سوأ كانت مسيحية أم مسلمة تشكل نموذجا ممتازا لدراسة الأثر المحتمل الناجم عن إنتشار الزواج الداخلي بتدهور مكانة المرأة ، وبقطع الناظر عن ( ديانة ) المجتمع الذي تدرسه ، ذلك إن ظاهرات من هذا النوع ، لا يمكن أن تكون قابلة للتحليل من دون رؤيتها كظاهرة كونية لا تخص ديانة بعينها كما فعل علماء السيسيلوجيا من قبل ، حين قاموا بتلطيخ الإسلام وإتهامه . في هذا الإطار رأت تيليون أن الكنيسة في فرنسا عملت لعدة قرون على مقاومة الزواج الداخلي وسعت إلى إحباطه ، وهذا صحيح تماما ، ولكن هذا النمط من الزواج المنتشر عند مسلمي أفريقيا ، لا يشير إلى إنعدام المقاومة ، بمقدار ما يشير إلى إرتباط ببنى قرابة راسخة وقوية مرتبطة بدورها بالأرض وملكيتها .
كانت تيليون في عام 1940 قد تعرفت على شبان جزائريين قاوموا فكرة إرغامهم من طرف عائلاتهم ، على الزواج ببنات عمومتهم . إن الميزة الأهم في كتاب تيليون تكمن هنا : قدرة الباحث على تقديم بحث كلاسيكي متماسك ، يضع مسألة حقوق النساء في الزواج والميراث ، كما ظاهرات تاريخية مثل ( الزواج الخارجي ) ، في إطار تاريخي . سوسيولوجي لا يجعل من الهوية الدينية للمجتمع عاملا وحيدا أو حاسما ، وهذا برأينا ميزة فريدة تضع الباحثة خارج عالم ملطخي الإسلام من المستشرقين ، ولذا يمكن القول أن ملاحظاتها ( الثقافية ) العمومية بصدد شمال فرنسا كندا وكورسيكا وجبال الألب ، حتى وإن إتسمت بطابع أقل جذرية ، فإنها جاءت لتعمق من ملاحظاتها الإثنوغرافية عن قبائل الأوراس والهجار وموريتانيا والمغرب .
لقد كانت المرأة المتزوجة ، وحتى وقت قريب ، في شمال فرنسا كما في كندا تعامل كما لو أنها “امرأة قاصر” وغالبا ما يتم وضعها إزاء زوجها ، تماما 2كما يوضع الطفل إزاء أبيه ، ولكن وفيما يتصل بنظام الإرث الفرنسي ، فصحيح أن النساء يرثن مثل الأولاد وبشروطهم ( على عكس الإرث في الإسلام ) بيد أننا نستطيع : ( أن نملأ عدة كتب فقط بملاحظات الطريقة التي تنتهك بها القوانين الفرنسية على حساب النساء في معظم أجزاء فرنسا ) ، وهذا يعني أن “الإرث النسائي” في فرنسا يماثل في وضعيته داخل المجتمع المتحضر ما هو عليه الحال داخل قبائل الهجار الموريتانية أو الطوارق ، أي : كونه عرضة للإنتهاك وهذا يعني أن الأمر في نهاية المطاف لا يتصل بعقيدة المجتمع ( سـواء كانت مسيحية أو إسلامية ) بل بوجود بنى مجتمعية تضرب في جذورها عميقا في التأريخ .
إذا كانت جيرمين تيليون قد كتبت عملها الكلاسيكي ، هذا لأجل تشريح مجتمعات المتوسط تاريخيا ، وسوسيولوجيا ، وبالإستعانة بالأساطير كما بالملاحظات الأثنوغرافية فإنها تملك الحق في القول أن هذا التشريح يهدف في المقام الأول ، إلى تبيان الترابط بين الجغرافيا وعلم الإناثة ، فعلى ضفاف المتوسط ثمة عالم متماثل في الثقافة والتاريخ والمعتقدات وربما في السلوك أيضا
http://www.mediafire.com/?vsoxtdsdht5fp8p