عبير الروح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

عبير الروح

فى الغابة، تتخاصم الأشجار بأغصانها، لكنها تتعانق بجذورها
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الأخلاق والدين

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
tousman

tousman


عدد المساهمات : 650
تاريخ التسجيل : 08/05/2011

الأخلاق والدين Empty
مُساهمةموضوع: الأخلاق والدين   الأخلاق والدين Emptyالثلاثاء مايو 24, 2011 2:49 am

الأخلاق والدين Arton6124

هل يمكن تأسيس الأخلاق على الدين؟ وهل أنّ للدين دورا محدّدا في تهذيب المعاملات الإنسانية وتحسينها؟

يبدو أنّ الإجابة عن السؤال الأوّل، من وجهة نظر فلسفية، هي بالسلب. لقد كتب أرسطو أخلاق نيقوماخوس، ولم يُعرّج بتاتا على أيّ من النصوص الدينية اليونانية، لم يربط في أيّ موضِع من مواضع كتبه بين الفضيلة، التي هي دعامة العمل الأخلاقيّ، وبين التعاليم الدينية. الفضيلة هي وسط بين إفراط وتفريط، أو بعبارة أخرى، الفضيلة هي فعالية إنسانية في منبعها، وإنسانية في غايتها. وفقط عن طريق الفضيلة، وعلى رأسها الفضيلة النظرية، يمكن للإنسان أن يحقّق السعادة في هذه الحياة الدنيا. لكنّ الفضيلة، بالنسبة للمؤمن، غير مكتفية بذاتها، ولا تستنفد العمل الإنسانيّ، لأنّ مرجعيتها وغايتها هي طاعة الله والقيام بأوامره. الأساس الذي تقوم عليه هذه النظرة للأخلاق، هو أساس لاهوتيّ، من حيث التصديق بوجود إله ما، ذي صفات وأفعال معيّنة، ثمّ بوجود رجال خارقي العادة، اجتبتهم العناية الإلهية، من دون البشرية كافّة، ولأسباب لا نعلمها، بحيث أنّ هذا الإله، المفترض وجوده، اصطفى منهم مجموعة مصغّرة جدّا لكي يُنزل عليهم وحيه ورسالته، ولكي يبثّوا هم بدورهم في بني جنسهم هذه الرسالة.

إذا تصفّحنا جوهر هذه الرسالة، دون الدخول في نقاش معمّق لقاعدتها اللاهوتية (والتي بدت للعديد من الفلاسفة غير صامدة أمام الفحص العقلانيّ)، فإننا سندرك مدى تناقضها، بل ومدى منافاتها لأسباب أسس التعايش السلمي بين البشر. الصعوبة المحورية في منظومة الأخلاق الدينية، والتي ربّما قد أعطت للشكّاك سببا مدعّما لنفورهم من الدين جملة وتفصيلا، هي التقسيم المانويّ للبشرية إلى ناجين وهالكين: الناجون هم الذين اتّبعوا تعاليم الدين الذي بشّر به هذا النبيّ أو ذاك، والهالكون هم باقي الإنسانية في جميع الأقطار والأزمان. أمّا أولئك الذين عارضوه أو قاوموه فإنّهم خارجون عن السراط القويم، ويحقّ لأصحاب الدين الجديد قتلهم وإبادتهم. في إطار هذه النظرة المانوية للأشياء فإنّ مفهوم الإنسانية، الذي من المفروض أن يكون متعاليا على أعراض الملّة والاعتقاد، يفقد من معناه، ويحلّ محلّه تصوّر نظريّ وعمليّ انتقائيّ، إقصائيّ، يُحابي الناس أو يعاديهم على أساس المعتقد، وليس على أساس الفعل والقصد. النتائج العملية لهذا التقسيم كانت في الماضي، وهي في الحاضر، وستبقى إلى الأبد ـ ما دامت هناك أديان ومعتقدات تعتمد الإقصاء كمنهج ـ جدّ كارثية، سواء في إطار المجتمع الواحد، أو على نطاق الإنسانية بأسرها. فمنظومة الأديان لا تكتفي بالالزام الفرائضي الذي هو تعذيب للنفس وقهر لها، دون مبرّر معقول أو غاية سليمة، بل إنها تستثير في الإنسان طاقة عدوانية موجّهة كلّها ضدّ المختلف المغاير (الكافر، المشرك، الصابئ، حسب القاموس الإسلامي) لقهره (هَديه) أو تدميره (غزوه). التاريخ يثبت بما فيه الكفاية أنّ الأديان، وعلى رأسها الأديان التوحيدية الثلاثة، التي اعتمدت التعصّب والانغلاق، وادّعت بأنّها تمثل إرادة الله على وجه الأرض، هي التي قامت بالحروب وقتلت الأبرياء وسبَتْ وعذّبت.

إذن من وجهة نظر موضوعية، التاريخ وحده، إذا تفحّصنا أحداثه العينيّة، يدحض دون رجعة أيّ ادّعاء بأنّ الإنسانية لو رُبِّيت تربية دينية، لحسن حالها ولفازت بالخلاص في الدنيا (وفي الآخرة).

لكنّ بعض مفكّرين ولأسباب عديدة، لا يطيقون نزع مشروعية العنصر الدينيّ من حياة البشر، وحتى إن اقترحوا أخلاقا دنيوية، فإنهم لم يذهبوا بها إلى مداها الأقصى، فبقيت القضية عندهم معلّقة، أو بالأحرى متأرجحة بين التعالي والمحايثة، بين الدينيّ والدنيويّ، دون البتّ الواضح في أيّ من طرفي المعادلة.

يحاول كاتب هذه السطور، في هذا المقال تتبع العلاقة المتوتّرة بين الأخلاق والدين من خلال قراءة لبعض نصوص الفليسوف الألماني عمانويل كانط، ومناقشة جانبا من أطروحاته الأخلاقية بالمقارنة مع فلاسفة التنوير والماديين الفرنسيين، وهذه المقارنة اتّخذناها كمثال إجرائيّ لتبيين صعوبة التوفيق بين التعالي والمحايثة لبناء أيّ منظومة أخلاقية.

***

« الأخلاق، نظرا إلى أنّها مَبنيّة على مفهوم للإنسان ككائن حرّ يَخضع، بما هو كذلك وبواسطة عقله إلى قوانين لامشروطة، لا تحتاج إلى فكرة كائن آخر متعالٍ على الإنسان، لكي يَعرِف واجباته، ولا تحتاج إلى وازع مغاير للقانون ذاته، كي ينفّذه(1)».

هذه أولى الكلمات التي صدّر بها كانط كتابه " الدين في حدود مجرّد العقل"، وهي كلمات تقريرية مُعتدّة وواثقة من نفسها قد تَصدم لأوّل وهلة القارئ المؤمن. لا، بل إنّ كانط يُوبّخ هذا الأخير ويُحمّله المسؤولية لبحثه عن ركيزة نظرية لأفعاله خارج القانون الأخلاقيّ ذاته: «الذنب يعود للإنسان ذاته إذا شعر في نفسه بحاجة من هذا القبيل، والتي لا شيء ولا أحد يمكن أن يوفّرها له: كلّ ما لا ينبع من الإنسان ذاته ومن حريته، ليس قادرا، فعلا، على تعويض نقصه الأخلاقي».

الأخلاق، في نهاية المطاف، لا تحتاج أبدا (سواء من جهة موضوعية، بحسب الإرادة، أو من جهة ذاتية، بحسب القدرة) إلى الارتكاز على الدين، لكنها تكتفي بذاتها بفضل العقل الخالص العمليّ(2).

القوانين الأخلاقية، كما يراها كانط، هي قوانين مُلزِمة بفضل صورتها البسيطة، التي تتمثّل في المطابقة الكلّية بين الشرط النظري والتحقيق العمليّ، وهذه الصورة البسيطة هي الشرط الأَسمى لكلّ الغايات. وبالجملة فالأخلاق ليست بحاجة إلى أيّة علّة مادّية محدِّدة للإرادة الحرّة (keines materialen Bestimmungsgrundes). ومَنْ يطلب غاية خارجة عن الواجب الأخلاقي فهو، في نظر كانط، إنسان خسيس (ein Nichtswürdiger).

يبدو، من وجهة نظر عمليّة، أنّ انتزاع الفعل الأخلاقيّ من الدين هو أمر محمود لأن جلّ الفلاسفة عارضوا الفكرة السائدة؛ أنّ الفضيلة تكمن في اتّباع تعاليم الدين، وأن الحلال والحرام والمباح والمحظور هي كلّ ما يتطابق مع تعاليم الشرائع وما جاءت به الكتب المدعوّة مقدّسة.

وهذه، فعلا، نقطة سلبيّة على حساب رجل اللاهوت والإنسان المؤمن بصفة عامّة؛ وقرّاء كانط، كانوا ولا زالوا إلى يومنا هذا ينقسمون إلى قسمين: المؤمنون والملحدون. بتلك الكلمات يحوز كانط على مصادقة الفيلسوف العقلاني اللامتديّن الذي يرغب في الاكتفاء بنفسه، سواء من حيث إنتاجه النظريّ المعرفيّ أو إنتاجه العمليّ، أي سنّ قوانين الإجتماع وتسيير نشاطه العمليّ. لكنّ خطاب كانط هذا لا يحظى هو نفسه بتزكية رجل اللاهوت والإنسان المؤمن على وجه العموم، لأنّه يعتبر الإرادة الإنسانية ناقصة لا بدّ لها من إطار مرجعيّ متعال يوجّهها، أي لا بدّ لها من وحْي صادق منزّل من السماء على غراره يَستمدّ شرائعه ويُسيّر أعماله.

لكنّ كانط لم يتمسّك، بأطروحته أعلاه، ولم يذهب بها إلى مداها الأقصى: لقد حدّ من خطورتها، بل انقلب عليها وتبنّى نقيضها. مثلما فعل في نقد العقل الخالص، بعد أن سدّ الأبواب أمام أيّ تعقّل ممكن للكيانات الغيبية الدينية من وجهة نظريّة بحتة، أعاد تأهيلها على المستوى العمليّ، وجعل منها ركيزة الفعل الأخلاقيّ، فإنه هنا أيضا يعود أدراجه ويتدارك الموقف: الأخلاق لا تحتاج إلى تمَثّل أيّة غاية ( keiner Zweckvorstellung ) تؤسّسها أو تسْبق تعيين الإرادة (Willensbestimmung). هذه هي الأطروحة المركزيّة والمبدأ الموجّه في النظرية الأخلاقية لكانط؛ الأطروحة النقيض تقول: الأخلاق لها «علاقة ضروريّة ( eine notwendige Beziehung habe ) بغاية مُتمثَّلة(3)»، وأشدّد هنا على كلمة ضروريّة لأنّ كانط نفسه يؤكّد أنّ الإرادة العمليّة، لا تتحدّد معالمها ولا تستقرّ إن لم تكن هناك غاية ما. والعقل لا يمكن أن ينتهج نهج اللاّمبالاة أمام هذا السؤال: ما النتيجة التي نخلص إليها عند قيامنا بعمل سويّ ما؟ وما الغاية التي نصبو إليها لتكييف تصرّفاتنا طبقها؟ الجواب هو في انسجام مع توجّهات كانط التي وردت من خلال نقد العقل الخاص ونقد العقل العملي، هذه الغاية لا يمكن أن تكون إلاّ «فكرة موضوع (Idee von einem Objekte) يحتوي في ذاته، موحّدة جميعا، على (أ) الشرط الصوري لكلّ الغايات التي ينبغي حيازتها (الواجب) وفي نفس الوقت، (ب) كلّ التشريطات المتوافقة مع تلك الغايات التي تُحرِّكنا (السّعادة المتطابقة مع القيام بالواجب)؛ إنّها فكرة خير أسمى في العالم (Die Idee eines höchsten Gutes in der Welt)، ولأجل إمكانيّته فإننا مضطرّون لافتراض كائن (Wesen) أخلاقيّ متعال، مقدّس، قدير، بحيث إنّه الكائن الوحيد الذي يجمع هذين العنصرين المكوّنين(4)».

إنّ فِكرة وجود هذا الكائن ليست فكرة خيالية وفارغة من أيّ محتوى، فهي، كما يؤكّد كانط، ليست بفكرة خاوي (leer، دون أية استتباعات نظرية أو عملية، ويكفي للوعي بدلالتها المهمّة في حياتنا العمليّة، أنها تُسعفنا في حاجيّاتنا العينية، وترشدنا لتوجيه أفعالنا نحو غايات مُثلى.

لقد احتار المعلّقون أمام هذا التراجع، أو ربّما التناقض الكانطي الصارخ. البعض منهم رأى فيه خطابا يغلب عليه طابع اللاهوت الإيمانيّ البروتستانتيّ، وهو في جوهره متَطابق مع تعاليمه الواردة في النقدين الأول والثاني، ولكنه يصبّ دائما في مصبّ التعاليم الدينية. فعلا، هذه الاستنتاجات ليست مجانبة للصواب لأنّ رأي كانط الصريح يدعّمها: «الأخلاق إذن تقود ولا بدّ (unumgänglich) إلى الدين، الذي بواسطته ترقى إلى فكرة مُشرّع (Gesetzgebers) أخلاقيّ خارج الإنسان، بحيث تكمن في إرادته تلك الغاية القصوى (خلق العالم) التي، في نفس الوقت، يمكن ويجب أن تكون الغاية القصوى للإنسان(5)».

الأخلاق بما تحمله من اعتراف بقدسيّة قانونها واعتباره كموضوع يستحقّ الإجلال، ثمّ الدين، بدوره، حينما يعترف بذاك السبب الأسمى ـ كمشرّع لتلك القوانين ـ وموضوع للتقديس، هما في انسجام تامّ ويبرز أحدهما عظمة الآخر.

***

نحاول الآن الرجوع خطوة إلى الوراء والنظر إلى المسألة من منظور الفلاسفة التنويريين الفرنسيين. السؤال: ما هو الشرط الأساسي لبناء أخلاق إنسانية بحتة والقطع النهائي مع المرجع اللاهوتي؟ ليس هناك من شكّ في أنّ الشرط الأساسي والأهمّ لانتزاع الأخلاق من الدين هو الارتكاز على مبادئ فلسفة مادية. الفلسفة التي لا تبتّ في وجود الإله أو عدمه مآلها التأرجح بين أخلاق إنسانية وأخرى لاهوتية، وفي الأخير تتغلّبُ الثانية على الأولى، وتعود الأخلاق إلى أحضان اللاهوت والدين. لم يتحقّق نظريا ذاك المشروع، أعني مشروع فكّ الرباط بين الأخلاق والدين، العقل والإيمان، إلاّ مع ثلّة من الفلاسفة الفرنسيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر ذوي التوجه المادي الإلحادي الصريح. الدين، بالنسبة إليهم، يُملي تعاليم "أخلاقية" تُدمّر الحياة الشخصية للأفراد، وتبرّر هيمنة السلطات الروحية والسياسية. يقول البارون دولباخ (d’Holbach) : « الدين الذي اتّخذ دائما كقاعدة الجهل وكمُرشد الخيال، لم يؤسّس الأخلاق على الطبيعة الإنسانية، على علاقات الإنسان بالإنسان، على الواجبات النابعة ضرورة من تلك العلاقات: بل فضّل تأسيسها على علاقات خيالية، زاعما أنّها قائمة بين الإنسان وقوى غيبيّة تخيّلها مجّانا وجعلها تتكلّم باطلا (6)». الدين حينما « استحوذ على الأخلاق ـ يضيف دولباخ ـ عتّم مبادئها. لقد جعل من اللااجتماع الإنسانيّ واجبا، وأرغم الناس على أن يُصبحوا متوحّشين ضدّ كلّ من لا يفكّر مثلهم(7)». ديدرو (Diderot) أيضا يصف الأخلاق الدينية بصفة عامّة، والأخلاق المسيحية، خاصّة، بأنها أخلاق "بربرية"، "شاذّة"، "خرافيّة"، تلك الأخلاق التي تتوعّد بنفس العذاب سواء مَن اقترف صغيرة أو كبيرة. إنها أخلاق « تأمر دون رحمة بِذَبْح كلّ من يَبتعد عن الآراء السائدة»؛ تعاليم أخلاقية « صبيانية، تؤسّس الواجبات الأكثر أهمية على خرافات هي في نفس الوقت مقزّزة وسخيفة»، ومِن الفَضائل « لا تَعتَرف إلاّ بتلك التي تصلح للإكليروس، وتَعتَبر إجراميا فقط كلّ ما هو مُضرّ بمصالحه(Cool».

ولتحرير الإنسان من الأخلاق اللاهوتية ينبغي، منذ البداية، العمل على تدمير أيّ شكل من أشكال الدين، ابتداء من الديانات الوضعية وصولا إلى تلك التي تُدعى "ديانة طبيعية"، لأنها مثل الأديان الأخرى مآلها التعصّب والأوهام(9): الإلحاد إذن هو النسق الفكريّ الوحيد القادر على تحرير الأخلاق من الدين. والفلاسفة الفرنسيون يُنبّهون إلى أنّ الإلحاد لا يعني التفسّخ الأخلاقي والانسلاخ من واجبات الإنسان تجاه أمثاله. وقد سبق لبيار بايل (Pierre Bayle) أن قال بأنّ مجتمعا من الملحدين لا ينبغي بالضرورة أن يكون متفسّخا أخلاقيّا، بل قد يكون أفضل وأعدل من المجتمع المتديّن. الشخص الذي يتبنّى الإلحاد لكي يُطلق العنان لشهواته ويسرّح ميولاته الحيوانية هو إنسان خسيس؛ فعلا، رفضُ وجود الله لا يقود بالضرورة إلى الإقبال على الرذيلة أو الانسلاخ من روابط الاجتماع البشريّ، بل على العكس من ذلك فهو يصبو إلى إعادة غرس تلك الفضائل التي عمل الدين ومؤسّساته على تهميشها. إذن كلّ ما في الأمر هو إزالة الأخلاق اللاإنسانية الزائفة القائمة على التسليم بوجود إله هو في الحقيقة، كما يقول دولباخ، « وهم باطل(10)». وهذا الوهم الباطل الذي صوّرته تخيّلات الدين دائما كطاغية متفسّخ، أصبح نموذج الإنسانية المؤمنة، ومثالا يُحتذى بصفاته وأفعاله. ولذلك فإنّ «الإنسان أصبح شرّيرا، ومتوحّشا، طائشا، متقلّبا، ومتعصّبا، حينما أقبل على محاكاة أولئك الطغاة المُؤلَّهين أو التمسّك بتعاليم مؤوّليهم(11)».

الحلّ يَكمُن في ضرورة تَعويض هذه الأخلاق المتوحّشة بأخلاق حقيقيّة، أخلاق تُناسب الإنسان ومَبنيّة على ضرورات حياته، بحيث أنها تُرشده لكي يكون خيّرا، إنسانيّا، واجتماعيا. هذه الأخلاق ينبغي أن تكون واحدة وكلية، أي صالحة لكلّ الناس، دون إدخال المعتقد الدينيّ فيها، لأنّ التجربة تُبيّن أنّ «تأسيس الأخلاق على إله، كلّ واحد يتصوَّره بطريقة مختلفة، كلّ واحد يتخيّله حسب صيغته الخاصة ويُكيِّفه طبقا لمَذاقه ومصالحه الشخصية، يعني في نهاية المطاف، تأسيس الأخلاق على النزوات الفردية وعلى خيال البشر؛ يعني أيضا بناءها على استيهامات طائفة ما، أو زمرة أو حزب ما، يعتقد أصحابه أنّ لهم الامتياز في عبادة الإله الحقّ، من دون الآخرين(12)». وكُلّما تَعدّدت تصوّرات الإله تعدّدت نُظم الأخلاق، وهذه التعدّدية ليست البتة عامل إثراء للبشرية، بل مُولّدة للصراع والحرب. لكنّ الأخلاق الفاضلة لا تَهدف إلى خلق الصراع بين الأفراد ولا إشعال فتيل الحرب بين الشعوب، بل إنّ مهمتها تكمُن في تفادي أسباب الفِتن، وهَديِ الناس إلى التكافل والمساعدة المتبادلة كي تكون الحياة سعيدة ومُريحة للجميع. الأخلاق السليمة ينبغي أن يتوفّر فيها شرط الكلّية، ولكي تَحوز على هذا الشرط يجب أن تتطابق مع طبيعة الإنسان التي يشترك فيها النوع وتُسحب على جميع أفراده دون تمييز.

الإنسان الفاضل في هذه الأخلاق هو الإنسان الذي يفعل بحسب ضرورة طبعه، بحيث يَجلب بعمله الصلاح لأمثاله، والإنسان الشرير يتصرّف ضرورة بحيث يُسبّب الفساد للمجموعة. لكنّ التربية والقوانين تدفع الإنسان إلى أن يكون فاضلا بتعليمه وتوعيته وغرسه فكرة أنه لا يمكن أن يُحقق الفضيلة والسعادة إن لم يَعتَن أيضا بسعادة الآخرين، لأنّ الاجتماع البشريّ يجعل مستحيلا على الفرد نيل السعادة دون الحفاظ على مصلحة المجموعة: كلّ إنسان مجبور على الاعتناء بسعادة مَن لا سعادة له بدونهم(13).

المذهب المادّيّ عمل على غرس الإنسان في الطبيعة، وقد أدى به ذلك إلى حصر كلّ حركاته وأعماله في حتمية طبيعة محكمة؛ لكنّ كانط، بخلاف الفلاسفة المادّيين، يرى أنّ الحتمية تتنافى مع المسؤولية الأخلاقية، لأنّ مَن فَقدَ حرية الاختيار يفقد المسؤولية عن أفعاله، ويغيب استقلال القانون الأخلاقي.

الإنسان، لا ينتمي فقط إلى العالم المحسوس، مملكة الضرورة، بل هو كائن مُزدوج، ينتمي إلى عالمين: عالم الظاهر (الأشياء المحسوسة)، من جهة، والعالم المعقول (عالم النومين، الأشياء في ذاتها) من جهة أخرى(14). في المجال الأوّل وككائن محسوس، إرادته محدّدة من خارج، ولكن من حيث إنه كائن روحانيّ فإنّ العقل المحض، المستقلّ بذاته، هو الذي يُملي عليه القانون الأخلاقيّ، وفي هذه الحال فإنّ الأسبقية هي للقانون الأخلاقيّ وليست للسعادة، بحيث أنّه يجب على الإنسان أن يتفادى بكلّ حزم تأدية ذاك القانون لغرض تحصيل السعادة لنفسه أو لغيره. وهذا الرأي يتضارب مع المبدأ الذي نصّت عليه الفلسفة المادية، كما رأينا أعلاه عند الفيلسوف دولباخ الذي أكّد أنّ «الواجب الأخلاقيّ هو ضرورة استعمال الوسائل الكافية لكي نجعل من الناس الذين نعيش معهم سعداء، وندفعهم إلى أن يجعلوا منّا سعداء أيضا(15)» فالوسائل ليست إلاّ الواجبات التي تمليها التربية والقوانين الرشيدة .

الفعل الأخلاقي لا يقاس، حسب كانط، بنتائجه الخارجية، بل بالقصدية، أو النية التي تدفع إلى اختيار فعل دون آخر، كما أكد على ذلك في " تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" حيث يرى أنّ: «الأخلاق لا تخُصّ مادة الفعل وما قد ينجرّ عنه، لكن الصورة والمبدأ اللذين يُشتق منهما الفعل، وبالتالي فإن ما يكمن فيها من خير جوهريا يتمثل في النية، بغض النظر عن النتائج». فالعمل الخيّر هو الذي نقوم به احتراما للقانون، الذي يأمرنا أن نفعل من أجل الواجب، أما العمل الشرير فهو القيام بالواجب لغرض تحقيق المصلحة.

لا شيء يعلو على الواجب من أجل الواجب، وأن يستحدث المرء مبدأ تجريبيا لكي يبني عليه الأخلاق فهذا، بالنسبة لكانط، هو عين الزيغ والتفسّخ. لذلك فإنه يعارض بشدّة الفكرة المادية التي تقول بأن غاية الإنسان هي تحقيق السعادة له ولبني جنسه في هذه الحياة الدنيا. الفضيلة لا تتماهى مع السعادة، وهذه الأخيرة لا تؤدي إلى إرساء أخلاق سامية: « إن مبدأ السعادة الخاصة هو أوْلى المبادئ بالاستنكار، لا لأنه فاسد فحسب، ولا لأن التجربة تناقض الإدعاء الذي يذهب إلى أن الهناء يتناسبُ دائما مع حسن السلوك، ولا لأنه لا يسهم بشيء في تأسيس الأخلاق، إذ أن جعل الإنسان سعيدا أمر يختلف كلّ الاختلاف عن جعله فاضلا، بل لأنه يقيم الأخلاقية على دوافع تعمل على هدمها والقضاء على ما فيها من سموّ وعظمة(16)».

لكن كانط، من جهة أخرى، لا ينفي ضرورة تحديد دافع معيّن على غراره يستطيع الإنسان أن يختار بين النزوع للسعادة، كمحرّك محسوس للإرادة، وبين القانون الأخلاقي. وقد ارتأى الموضع المعيّن لهذا الدافع في ذاك الشعور الخاصّ الذي سماه "احتراما (Achtung)"؛ والاحترام، حينما يُضفي "هيبة على القانون"، فإنه يؤثر في الإرادة(17). والخاصية المميزة لهذا الشعور أنه متولّد، حسب كانط، فقط من العقل الخالص العملي. ثم إن هذا الشعور باحترام القانون، الوحيد الذي نعرفه ما قبليا، مختلف شديد الاختلاف عن الأحاسيس الطبيعية التي نعرفها ما بَعديّا على أساس تجربتنا الخاصة.

كيف يتيسّر للكائن العاقل المُتجذّر في العالم الحسّي أن يَنزع إلى الواجب الذي يَرسُمه له العقل؟ كيف يمكن لملكة متعالية أو لفكرة بسيطة مجرّدة، لا تشمل في ذاتها أيّ عنصر حسّيّ، أن تُحدِث شعورا ما؟ بالنسبة للفلاسفة الماديين لا يمكن لعاطفة ما أن تُعَارَض إلاّ بعاطفة أخرى، لأن التقابل لا يتحقق إلاّ بين أطراف مُتجانسة أو بين كيانات تنتمي إلى نفس الطبيعة. لكن كانط، على العكس من ذلك، ذهب إلى أن التعارض يحدث بين عناصر غير متجانسة، أي تتعلق بنظامين مختلفين من الأشياء: بين المشاعر الطبيعية (الأهواء، العواطف) من جهة، والاحترام من جهة أخرى. فعلا، إن ذاك التأثير يَحدُث، حسب كانط، نظرا إلى أن: « للعقل مَلكة قادرة على أن تغرس فيه [الكائن البشري] شعورا باللذة أو الرّضا المرتبطين بالوفاء بالواجب؛ كما يقتضي تبعا لذلك أن تكون لديه علّيّة تمكّنه من تعيين الحساسية وفقا لمبادئه(18)».

في الوقت الذي يعتبر فيه المادّيون أن الدافع الطبيعي هو الأقوى في تحديد الإرادة، ومن ثمّ في توجيه الفعل، يرى كانط أن الإرادة الحرة التي تختار بين هذا وذاك من الدوافع، هي العامل المحدد.

لكنه لم يتمسّك كليا بهذا المبدأ، بل ناقضَه حينما ذهب إلى أن الاحترام قادر على التغلب بذاته على النزعات الطبيعية وأن يُحدّد بذلك الإرادة، التي تفقد حريتها في الاختيار. في كتاب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" يقول بالحرف: «إنّ تَمَثّل الواجب، وبصفة عامة، القانون الأخلاقيّ المحض وغير المختلط بدوافع خارجية محسوسة، يُحدِثُ في قلب (Herz) الإنسان […] تأثيرا أقوى من أيّ دافع موجود على أرض التجربة، إلى درجة أنه قادر على اختراق هذه النزعات والتحكّم فيها رويدا رويدا». وفي "نقد العقل العملي" يقول أيضا: «إنّ الاحترام للقانون […] هو الضرب الوحيد (alleinige Bestimmungsart) الذي يُحدِّد فيه هذا الأخير الإرادة (des Willens) (19». إذن القانون يحدّد الإرادة من خلال الشعور بالاحترام، وهذه تذكِّرنا بأطروحة أخلاق سبينوزا وبالماديين الفرنسيين " كلّ عاطفة يمكن أن تُغلب فقط من قِبَل عاطفة أخرى أقوى". وطبقا لهذه الأطروحة، كما بيّن أحد الدارسين الإيطاليين، فإن النتيجة التي خلص إليها كانط: «تَضَع موضع نقاش ما يُعتبر "الركيزة الأساسية" للنقد الثاني ـ الذي يتمثل في التأكيد على حرية الاختيار بين عناصر مختلفة ومتضادَّة ـ وتُعيد الحتمية، التي كانت فاعلة فقط في مجال الواقع الظاهري، إلى قَلبِ الأخلاق ذاتها(20)».

إذن، الأطروحة والنقيض جنبا إلى جنب: فعلا، في نفس ذاك النصّ الذي خلص فيه كانط إلى تلك الحتمية الصريحة، يعمد، في صفحات أخرى، إلى إدانة فكرة حتمية أفعال الإنسان حتى ولو كانت متأتية من القانون الأخلاقي ذاته، لأنه في هذه الحال سيَتَحوّل: «تَصرُّفَ البشر إلى مجرّد آليّة، مثل مسرح الدمى (Marionettenspiel)، حيث الكلّ يتحرّكون جيّدا، ولكن لا يمكن أن نجد داخل الأشخاص، أيّ أثر للحياة على الإطلاق(21)».

وللخروج من مأزق الحتمية اعترف كانط بأنّ أفعالنا مَصحوبة دائما بالوعي الداخلي، والتَّيقّن من أنها صادرة منا شخصيا، وبالتالي فإن كلّ فرد يعرف أنه هو القائم بأعماله والمسؤول أخلاقيا عن نتائجها. لكن هناك مفارقة رهيبة جدّا: الفعل الحرّ النابع من العقل المحض: «لا يَخضَع لصورة الزمان ولا، بالتالي، لشروط التسلسل الزماني، وعِلّيّة العقل في الطبع لا تتولّد أو تَبدأ في زمن معيّن بإحداثِ مَعلولها […] فالعقل هو إذن الشرط الدائم لكلّ الأفعال الإرادية التي يظهر فيها الإنسان، وكلّ فعلٍ من أفعاله مُتعيِّن في طبع الإنسان الإمبيريقي حتى قبل أن يَحصُل. لكن بالنظر إلى الطَّبعِ […] ليس ثمة من قَبلُ ولا بَعدُ، وكلّ فعل…هو بلا توسّط معلول طبع العقل المحض المعقول(22)».

الطبع في نهاية المطاف هو العامل المتحكّم في أفعال الإنسان، في "نقد العقل العملي" يقول بأن «هناك حالات يُظهر فيها بعض الناس منذ طفولتهم، حتى إن أدّبناهم… بَوادر شرّ، ويستمرّون على تلك الحال إلى غاية سنّ الرشد، إنهم الشريرون بالولادة…؛ إلاّ أنهم يحاكَمون على ما يفعلون وما لا يفعلونه، ويُعاب عليهم إجرامهم كأنه ذنب؛ لا بل إنهم (الأحداث) يجدون هذا التأنيب مشروعا، كما لو أنه، على الرغم من الطبيعة المتفسّخة للطبع المنسوب إليهم، يبقون مسؤولين مثل أي إنسان آخر. هذا لا يمكن أن يحدُث لو لم نفترض أن كلّ ما يتأتى لهم من الإرادة الحرّة … له أساسه في سببية حُرّة، تُمظهر، منذ حداثة السنّ، طبعه في ظواهره (أفعاله) ». إذن الأفعال الخارجية للإنسان، بما هي ظواهر، تَبرُز في الزمان، أي في تسلسل ضروري لآناته، لكنها بما هي تعبير عن كائن عقلاني فهي قد حدثت دائما. الحرية هنا لا تعني غياب الإرغام المتأتي من شرط مسبق، بل إن الحرية تعني، غياب الشرط المكيِّف للإرادة. إذن نفس الفعل هو ضروري وحرّ: ضروري كظاهرة خارجية طارئة، حرّ بصفته معقول خارج الزمان، وبالتالي فهو حرّ بقدر ما هو خالد. وبالجملة فإن الفعل الإنساني هو نتيجة زمنية لاختيار حرّ مسبق قام به الأنا النوميني في بُعد خارج الزمان؛ ولذلك فإن كلّ فعل، صادر عن الأنا الإمبيريقي، هو فعل مُحتَّم، في الأساس، من طرف كائن "غيبي" لامنظور. وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة، أعني إن كان كلّ شيء في أفق الظاهر يجب أن يحدث (العلية الطبيعية)، أما في أفق النومين كل شيء كان قد حدث منذ الأزل، « فإنه من غير المسموح لنا اختيار الأفق الذي نكون فيه»، والنتيجة هي أننا، في الحقيقة: «لا نَختار بأن نكون أخلاقيين. عندما نختار بأن نكونه، فسببه أننا كنّا كذلك(23)». هذه حتمية شبيهة بتلك الحتمية التي توصّل إليها دُولباخ، ولكن مع اختلاف جوهري: وهو أنه في الوقت الذي رأى فيه المَاديّون أن حتمية أفعال الإنسان تتحرّك على مستوى أفقي، حيث تتتالى جميعها بحسب ضرورة طبيعية؛ عند كانط الحتمية تَحدُث طبقا لعلاقة عمودية، تحكُمها الضرورة، في مستويين من الوجود: الأوّل هو المستوى الزمني للأفعال الخارجية والثاني هو مستوى الإرادة "النومينية" التي اختارت في اللاّزمان، بحيث أن كلّ أفعال الإنسان، ولمدّة حياة كاملة، هي فعلا مَحكومة ومُسيَّرة من طرف كائن خفي لا ندري عنه شيئا. النتيجة مُربكة جدّا ولكن لا يمكن تفاديها أبدا: وهي أنه، في ضرورة مزدوجة من هذه القبيل، لن يَبقى للمسؤولية، والذنب والجناية بل حتى الأخلاق ذاتها مِن معنى: « إن الضرورة التي رَغبَ كانط في حَذفها مِن الفعل الأخلاقي، تعود في لباسٍ يُقارب الأسطور(ة24)». فعلا، الإنسان طبقا لتعاليم كانط، هو كائن متزمن ومتجذر في سيرورة التاريخ ولكنه، في العمق، ليس إلاّ لُعبة في يَد أنا مَجهول الطبيعة (نومين) ويرقب نعمة متأتية من إله لا يمكن التنبؤ بأفعاله.

الفضيلة من حيث هي الاحترام اللامبالي للقانون الأخلاقي هي الخير الأسمى، لكنها لا تستنفذ في ذاتها الخير بتمامه، أي الخير الذي يُستَكمَل في وحدة تركيبية تجمع بين الفضيلة والسعادة. بالنسبة للماديين هناك علاقة تحليلية بين الطرفين، أي أن الثانية مُتضمَّنة في الأولى ( يكفي أن يكون المرء فاضلا لكي يكون سعيدا). السعادة، في أخلاق كانط هي، على العكس من ذلك، عنصر مُغاير جدّا نوعيا للفضيلة (spezifisch ganz verschiedene) وتَنضاف إليها فقط حينما تكون الشخصية مؤهَّلة أخلاقيا، ولذلك فإن «القانون الأخلاقي في ذاته لا يَعِد أبدا بالسعادة. فعلا، هذه الأخيرة ليست بالضرورة مرتبطة بتأديته(25)»؛ ثم إن «الأخلاق ليست، بحدّ ذاتها، النظريّة التي تُعلِّمنا كيف نُصبح سعداء، بل كيف يجب أن نصبح أهلا (würdig) للسعادة(26)». هذا رغم أن العقل العملي يُتيح إمكان ذاك الترابط بين الفضيلة والسعادة، بين المشروط والشرط؛ لكن، في حقيقة الأمر، السعادة ليست من هذا العالم. بالطبع هذا ليس رأي الماديين الفرنسيين: فعدَم إمكانية تحققها في هذا العالم يعود إلى سببين. إما لغياب أية ضمانة لتعويض الفضيلة بالسعادة، أو لأنه لا يوجد توزيع متوازن للسعادة. ما الحلّ إذن؟ الحلّ معروف ولكنه يصدمنا دائما: «مِن الضروري أخلاقيا التَّسليم بوجود الله(27)» وبالتالي، طبقا لهذا الشرط، فإن « القانون الأخلاقي ـ بفضل مفهوم الخير الأسمى الذي هو موضوع وغاية للعقل الخالص العملي ـ يقود [حتما] إلى الدين(28)»، أي إلى الإيمان العقلاني بوجود الله، وخلود النفس، والعالم المعقول، الذي هو مملكة الله؛ وفقط حينما «ينضاف الدين، يَتدخَّل الرجاء أيضا في أن نصبح، في المستقبل، مشاركين في السعادة، بِقَدر ما اجتهدنا في أن لا نكون غير مؤهلين لها(29)». وعلى هذا الأساس فإن الإنسان الذي لا يَعتقد في وجود الله منذ البداية ليس إنسانا مُتَعَرّيا من الدين فقط، بل ليس إنسانا أخلاقيا، لأن تحقيق الخير الأسمى لا يتمّ إلاّ بالإيمان بالله. اللاهوت هنا يتدخل بكلّ قوة لكي يُشرّط الفعل الأخلاقي ذاته، بل إنه يُصبِح، في نهاية المطاف، الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق، نظرا إلى أن الدين ليس إلاّ «مَعرفةَ جميع واجباتنا على أنها أوامر إلهية». وطبقا لهذا المبدأ، تغدو الأوامر الإلهية، الضمانة الوحيدة لمشروعية القانون، بحيث أن مبادئ العقل الخالص العملي لا يمكن أن تعوّضها أو تنفيها. هذه الأطروحة يبدو دون شكّ أنها تُحيّد إلى أبعد الحدود ادعاءات كانط من أنه ينبغي علينا دائما اعتبارها «قوانين أخلاقية نابعة من إرادة حرّة في ذاتها» وليست « إلزامات اعتباطية مفروضة من طرف أوامر إلهية خارجة عن الإنسان».

إن إدخال الإرادة الإلهية في شؤون الأخلاق ورَبطها بتعاليم الدين، شيء يَبعث على الحيرة، خصوصا إن قارنّا كلام كانط بتعاليم الفلاسفة الفرنسيين الذين حقا كانوا أكثر تحرّرا وأكثر جدية في معارضة الدين. وقد يكون هذا الأمر مرتقبا من طرف كانط الذي لم يتخلّ طوال حياته عن قناعاته الدينية وبالأخص عن فكرته المتشائمة التي ترى في الطبيعة الإنسانية طبيعة مخرَّبة بالشرّ الجذري.

في الوقت الذي اعتبر فيه الماديون الفرنسيون الفضيلة وسيلة مضمونة لتحصيل السعادة في هذه الحياة الدنيا، فإنّ كانط، على العكس من ذلك، يرى أن السعادة لا تعدو أن تكون الشرط الذي يُخَوِّل لنا أن نَتَمنَّى استمرار الحياة في العالم الآخر. السعادة في الحالتين هي الغاية القصوى: لكن في حين عَمَد الفلاسفة الفرنسيون إلى تأسيسها على الفضيلة الدنيوية المكتفية بذاتها، دون إحالتها على مرجعية إلهية، فإن كانط أسّسها على افتراضات لاهوتية وبالتالي فقدت من استقلالها الذاتي.

يقول بأن القداسة هي: « الشرط الأعلى للخير الأسمى»، أي « المُطابَقة التامة بين الإرادة والقانون الأخلاقي […] وهو كَمالٌ لا يَقدر عليه أي كائن عقلي في العالم المحسوس، وفي أيّة لحظة من حياته. ولكن بما أنها مَطلوبة كضرورة عَملية [لنيل السعادة] يمكن أن توجد فقط في تقدّم لامتناه(30)»، وهذه السيرورة «ممكنة فقط إذا افتراضنا مسبقا البقاء اللانهائي لنفس شخصية الكائن العاقل، وبالتالي فإن الخير الأسمى هو عمليا ممكن بشرط افتراض خلود النفس(31)».

سعادة لانهائيّة، خلود النفس وبقاؤها بعد الموت، يوم القيامة إنّها، كما قال الفيلسوف دولباخ، مُعتقدات تعمل على إذلال عقل الإنسان وإهانته: كانط يتحدّث عنها كما لو كانت أشياء بديهية، أو مُلامِسَة، في بعض أطرافها، للعقلانية النظرية والعملية. إنها ليست أكثر من خرافات تَستثِير خيَال العامّي الذي يؤمن ولا يفكّر، وبالتالي «لا يمكن أن تبدو مقنعة ولا حتى مُحتملة بالنسبة للعقول النيّرة32» كما يرى دولباخ. هذه المعتقدات هي في الحقيقة مُجرّد رغبات ذاتيّة لا ترقى أبدا إلى درجة التحقق في الواقع؛ وأيُّ مَنطِق غريب هذا الذي يَتجرّأ على الزعم بأن شيئا محالا يجب أن يحدث لأننا نرغب بشدّة في أن يحدث؟ «إنكم تَعتمدون على رغباتكم لكي تجعلوا منها مِقياسا للحقيقة».

ما القداسة؟ وما علاقتها بالخير الأسمى؟ القداسة، يجيب كانط، تتمثّل في التماهي الكامل بين النية والقانون، وهي مثال متعال، أي "كلّية مستحيلة التحقيق"؛ أمّا الخير الأسمى، بما أنه " تقدُّم لامتناه" فهو غاية لا يمكن نيلها. الاعتراض إذن: «كيف يمكن أن نتصوّر في الآخرة تقدّما أخلاقيا لامتناهيا لأنفس مُتعرّية من شرط الحساسية، ذاك الشرط الذي بتجاوزه تتحقق الأخلاقية؟ وهب أن هذا الأمر تحقق فعلا، في هذه الحال، النّفس الفاضلة ستكون سعيدة في الآخرة، ولكنها تَكفّ عن القيام بالجُهد الأخلاقي، وبالتالي تُصبح غير "مُؤهَّلة للسعادة" […]؛ وهكذا لكي يتمكّن الإنسان من أن يَأمَل في حياة أخلاقية»، كانط « يُخاطر بإزالة الأخلاق ذاتها(33)». لقد وَجَد نفسه، دون التفطّن إلى ذلك، في كَماّشة مُفارقة رهيبة حقا: « إما أن يكون الإنسان مُتخَلّقا دون أن يَكون سعيدا، أو سَعيدا بدون أخلاق؛ إمّا أن يكون لديه حَدّ يتجاوزه، ولا شيء يقدر أن يُزيح ذاك الحدّ ويُزيل عنه عدم رضَاه، أو أن يكون ذاك الحدّ مَعدوما، وبالتالي ليس أخلاقيا. وقد يُصبح سعيدا في الحياة الأخرى بتَجاوزِه نزعاته الذاتية، لكن وَعيَه بالحدود المستمرة التي تفرضها عليه نزعاته، سيُلقيه في التعاسة(34)». لا نُجحف أبدا إن قلنا بأن الخير الأسمى الذي نَظّر له كانط هو مثال متناقض، ليس فقط كمفهوم نظري بل حتى كمُصَادرة للعقل العملي. النتيجة هي أن النسق "الأكثر عقلنة" للحياة الأخلاقية التي لم يَر لها الإنسان نظيرا، حسب أتباع كانط، تَنتهي أخيرا إلى لاعقلانية رهيبة، بل إلى تناقض صارخ. وتفسيرها الوحيد هو أن الرجل بَقي مُتعثّرا في قناعاته الدينية، ولم يَنجح في التوفيق بينها وبين أخلاق عقلانية متكاملة. إن إرادة الجمع بين أخلاق دُنوية مُحايثة، وأخرى دينية متعالية هو إحدى المخاطر الكبرى التي تُهدّد فلسفة كانط. فعلا، الخير الأسمى الذي يصبو إليه كانط، إما أن يكون الانعدام النهائي للشخصيّة الإنسانية، أعني التّماهي الكُلي في الذات الإلهية، أو إنه التقدّم اللامتناهي، يَعني غاية لا يمكن تَحقيقها أبدا، وبالتالي تعاسة متواصلة إلى الأبد.

الهوامش: 1- " Die Moral, so fern sie auf dem Begriffe des Menschen, als ein freien, eben darum aber auch sich selbst durch seine Vernunft an unbedingte Gesetze bindenden Wesens über ihm, um seine Pflicht zu erkennen, noch einer andern Triebfeder als des Gesetze selbst, um sie zu beobachten" I. KANT, Die Religion innerhalb der bloßen Vernunft, Königsberg, 1794. ( Werke in zwölf Bänden, herausgegeben von Wilhelm Weischedel, Erste Auflage. Suhrkamp, Frankfurt am Main 1977. Band VIII, p. 649).

2- " Sie (die Moral) bedarf also zum Behuf ihrer selbst (sowohl objektiv, was das Wollen, als subjektiv, was das Können betrifft) keineswegs der Religion, sondern, vermöge der reinen praktischen Vernunft, ist sie sich selbst genug". Ibidem.

3- كانط، الدين في حدود مجرّد العقل، م. س، ص، 650.

4- كانط، ن. م، ص، 651.

5- „ Moral also führt unumgänglich zur Religion, wodurch sie sich zur Idee eines machthabenden moralischen Gesetzgebers außer dem Menschen erweitert, in dessen Willen dasjenige Endzweck (der Weltschöpfung) ist, was zugleich der Endzweck des Menschen sein kann und soll “. Ibid, p. 652.

6- P. T. d’HOLBACH, Système de la nature ou des lois du monde physique et du monde moral, nouvelle édition avec des notes et des corrections, par Diderot, édité avec une introduction par Yvon Belaval, Reprografischer Nachdruck der Ausgabe, Paris 1821, Georg Olms Verlag, Hildesheim, 1966, in 2 voll. (trad. it. Sistema della natura di Paul-Henry Thiry d’Holbach, a cura di Antimo Negri, UTET, Torino 1978, p.347)

7- P. T. d’HOLBACH, Il buon senso, a cura di S. Timpanaro, Garzanti, Milano 1985, p. 149.

8- D. DIDEROT, L’uomo e la morale, a cura di V. Barba, Edizioni Studio Tesi, Pordenone 1991, p. 111.

9- P. T. d’HOLBACH,. Sistema della natura , op. cit, p. 527.

10- P. T. d’HOLBACH, Sistema della natura, ivi, p. 443.

11- Ibidem.

12- D. DIDEROT, L’uomo e la morale, op. cit, p. 110.

13- P. T. d’HOLBACH, Sistema della natura, op. cit, pp. 328-29.

14- « ولهذا السبب يتحتّم على الكائن العاقل، بوصفه عقلا…أن يعدّ نفسه منتميا لعالم معقول لا لعالم محسوس، وعلى ذلك فإن لديه وجهتي نظر يمكنه أن يتأمّل نفسه من خلالها وأن يعرف قوانين ممارسة ملكاته، وبالتالي قوانين أفعاله جميعا: فهو من ناحية انتمائه لعالم محسوس يخضع لقوانين الطبيعة، وهو من ناحية انتمائه لعالم معقول يخضع لقوانين مستقلة عن الطبيعة، غير تجريبية، بل قائمة على أساس العقل وحده». كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ك. أ. ك، ج VII، ص، 88. انظر الترجمة العربية، أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد القادر الغفاري المكاوي، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا 2002، ص، 159.

15- P. T. d’HOLBACH, Sistema della natura, op. cit, p. 192.

16- كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م. س، ص، 76. الترجمة العربية، ص، 136.

17- كانط، نقد العقل العملي، ك. أ. ك، VII، ص 195 ـ 196.

18- كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م. س، ص، 98. (ت. ع)، ص، 175.

19- كانط، نقد العقل العملي، م. س، ص، 203.

20- Cfr, V. BARBA, La “Scappatoia” della libertà…, op, cit, pp. 36-37.

21- كانط، نقد العقل العملي، م. س، ص، 282.

22- كانط، نقد العقل المحض، م. س، (ت. ع)، ص، 279 ـ 281.

23- V. VITIELLO, Oltre l’ethos: la morale kantiana, in A partire da Kant. L’eredità della “ Critica della ragion pratica”, a cura di A. Fabris e L. Baccelli, Franco Angeli, Milano 1989, p. 66.

24- V. BARBA, La “Scappatoia” della libertà…, op, cit, ibidem.

25- „ Aber das moralische Gesetz für sich verheißt doch keine Glückseligkeit; denn diese ist, nach Begriffen von einer Naturordnung überhaupt, mit der Befolgung desselben nicht notwendig verbunden“.I. KANT, Kritik der Praktischen Vernunft, Ibid, p. 260.

26- Ibid, p. 261.

27- " es ist moralisch notwendig, das Dasein Gottes anzunehmen", Ibid, p. 256.

28- " Auf solches Weise führt das moralische Gesetz durch den Begriff des höchsten Guts, als das Objekt und den Endzweck der reinen praktischen Vernunft, zur Religion". Ibid, p. 261.

29- Ibidem.

30- Ibid, p. 252.

31- Ibidem.

32- P. T. d’HOLBACH, Sistema della natura, op. cit, p. 286.

33- G. MARPURGO-TAGLIABUE, Introduzione a I. KANT, I sogni di un visionario, spiegati coi sogni della metafisica, trad. di M. Venturini, Rizzoli, Milano 1995, p. 74.

34- Ibid, p. 75
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اللباني

اللباني


عدد المساهمات : 55
تاريخ التسجيل : 09/05/2011

الأخلاق والدين Empty
مُساهمةموضوع: رد: الأخلاق والدين   الأخلاق والدين Emptyالثلاثاء مايو 24, 2011 2:58 am

شكرا جزيلا توسمان على هذه المقالة المهمة..
للأسف فإن اسم الكاتب غير موجود.. لماذا؟
وإن كنت أستشف أسلوب عادل ضاهر فيها..
تحياتي ومحبتي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الأخلاق والدين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  السحر والدين في إفريقيا الشمالية : ادموند دوتي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
عبير الروح :: الفنون :: الحوار الفكري والإجتماعي والسياسي-
انتقل الى: