عبير الروح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

عبير الروح

فى الغابة، تتخاصم الأشجار بأغصانها، لكنها تتعانق بجذورها
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الأسطورة- فراس السواح

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
tousman

tousman


عدد المساهمات : 650
تاريخ التسجيل : 08/05/2011

الأسطورة- فراس السواح Empty
مُساهمةموضوع: الأسطورة- فراس السواح   الأسطورة- فراس السواح Emptyالسبت مايو 21, 2011 5:51 am

الأسطورة- فراس السواح Arton176

الأسطورة والتاريخ: أساطير االشرق القديم

في مقالات سابقة، قلت بأن الأسطورة هي حكاية مقدسة يؤمن أهل الثقافة التي أنتجتها بصحة وصدق أحداثها. فهي والحالة هذه سجل لما حدث في الماضي وأدى إلى الأوضاع الراهنة. وهذا مايعقد صلة قوية بين الميثولوجيا والتاريخ باعتبارهما ناتجان ثقافيات ينشآن عن ذات النوازع والتوجهات، أي عن التوق إلى معرفة أصل الحاضر. ولكن بينما تنظر الأسطورة إلى التاريخ باعتباره تجل للمشيئة الإلهية، فإن التاريخ ينظر إلى موضوعه باعتباره تجل للإرادة الإنسانية في جدليتها مع الطبيعة. وهذا يعني أننا أمام نوعين من التاريخ: تاريخ مقدس وتاريخ دنيوي.

يقتصر التاريخ المقدس على سرد كيفية تجلي "الإلهي" في الزمان والمكان، والكشف عن فعاليات الكائنات القدسية في الأزمان الميثولوجية الأولى، وما نشأ عنها في عالم الإنسان. إن كل فعل من أفعال الإنسان، وكل وضع من أوضاعه الحالية، لاتتمتع بقيمة ذاتية، بل إن قيمتها وحقيقتها تنبع من حقائق تقع خارج الملموس والمحسوس، من بوادر أولى متجذرة في زمن الأصول. فالجنس البشري محكوم عليه بالكد والمشقة لأن الآلهة قد خلقته ليحمل عبء العمل عنها، على مانعرف من أسطورة أتراحاسيس؛ والمؤسسات الاجتماعية مثل الكهنوت والملكية الوراثية، قائمة وتتمتع بفعالية ونفوذ، لأنها هبطت من السماء، على مانعرف من أسطورة آدابا وأسطورة إيتانا والنسر؛ والمرض قد حل في جسم الإنسان بسبب خطيئة ارتكبها الإله إنكي، على مانعرف من أسطورة إنكي وننخرساج؛ وصار الموت نصيباً لكل إنسان بسبب خطيئة ارتكبها الإنسان الأول، على مانعرف من أسطورة آدابا وأسطورة الخلق التوراتية؛ والشر موجود في نسيج العالم بسبب تمرد ملاك في السماء وتحوله إلى شيطان، على مانعرفه من المعتقدات المسيحية والإسلامية.

يمكننا تمييز ثلاث مراحل في التاريخ الذي تكشف عنه الأسطورة: 1- السرمدية السابقة على فعاليات الألوهة. 2- الزمن الكوزموغوني، أي زمن الخلق والتكوين. 3- زمن الأصول والتنظيم.

لا تعلن الألوهة عن نفسها إلا عند دخولها في الزمن وتاريخ الكون والإنسان، وذلك مع قيامها بفعل الخلق الأولي الذي مد المكان وأطلق الزمان، وقاد إلى ظهور الكون في رحم العماء. والأسطورة الحقة لاتتشكل عندما يكوِّن الإنسان في ذهنه صوراً للآلهة، بل عندما يعزو إليها بداية محددة في الزمن، وعندما تباشر فعالياتها وتنبيء عن وجودها في سياق زمني، أي عندما يتحول الوعي الإنساني من فكرة الألوهة إلى تاريخها.

تقع الأحداث التي تقصها أساطير التكوين عند الحد الفاصل بين السرمدية والتاريخ، أي في الزمن الكوزموغوني. ومع الانتهاء من فعل الخلق نغادر هذا الزمن الكوزموغوني، ويدخل الإنسان وآلهته معاً في الزمن الخطي التاريخي. وهنا يعقب فعل الخلق البدئي مجموعة أخرى من الفعاليات المبدعة للألوهة تنشط في الأزمان الواقعة عند جذور الزمن التاريخي، أي أزمان الأصول والتنظيم. وهذه الفعاليات تسجلها لنا الزمرة التي نطلق عليها عادة اسم أساطير الأصول، وهي تعمل على تأسيس وتأصيل كل ماهو قائم، سواء على المستوى الطبيعاني أم على المستوى الحضاري.

تقدم لنا أساطير الشرق القديم أمثلة واضحة عن هذه المراحل الثلاث للتاريخ المقدس. فمطلع أسطورة التكوين البابلية، الإينوما إيليش، يعطينا أبلغ وصف عن حالة كمون الألوهة في مرحلة السرمدية السابقة على الفعاليات الإلهية، عندما يقول: "عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض؛ لم يكن من الآلهة سوى آبسو أبوهم، وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعاً، يمزجون أمواههم معاً." ينقل لنا هذا المقطع انطباعاً ميثولوجياً شديد التأثير عن مفهوم السرمدية الساكنة المنكفئة على نفسها المكتفية بذاتها؛ وهو في اختياره للماء جوهراً لهذه الكيانات الإلهية الثلاث، يؤكد على حالة الشواش والعماء السابقة على كل شكل.

ينتقل النص بعد ذلك إلى مرحلة الزمن الكوزموغوني، الذي يصدر فيه الكون عن الشواش والزمن عن السرمدية. فقد أخذت هذه الكتلة المائية الأولى بالتمايز تدريجياً، وصدر عنها الجيل الأول من الآلهة؛ ومع ظهور هذا الجيل تبدأ إرهاصات الزمن ونقترب من البرزخ الكوزموغوني. ويعبر النص عن إرهاصات الزمن بالضجيج الذي يصدر عن الآلهة الجديدة الشابة، في مقابل ذلك الصمت المطلق للأزلية الساكنة؛ ففي أعماق الأمواه المتمازجة في صمت وسكون، أخذ هؤلاء بالصخب والحركة جيئةً وذهاباً فهزوا جوف تعامة وسببوا لها الأذى، كما سببوا الأرق لآبسو وممو. وهكذا اصطدم الصمت بالضجيج والحركة، وحدثت بين الفريقين معركتان قادتا إلى ابتدار التاريخ، قاد المعركة الأولى الإله إيا الذي قتل آبسو وأسر ممو، وقاد بعده الإله مردوخ المعركة الثانية فقتل تعامة وشطرها إلى نصفين رفع واحدهما سماء وأرسى الثاني أرضاً. ثم التفت بعد ذلك إلى فعاليات التنظيم، ففي السماء صنع النجوم وكوكبات خط السمت، ونظم الزمن فحدد السنة ونظم أجزاءها، وأخرج القمر فسطع بنوره وأوكله بالليل، وفي الأرض صنع الغيوم وحملها بالمطر، وفجر الينابيع وأحيا الآبار، وبنى مدينة بابل ومعبدها الكبير. وأخيراً خلق الإنسان ليعمل على الأرض.

وفي الميثولوجيا المصرية نستطيع متابعة مراحل التاريخ المقدس نفسها، أي من السرمدية إلى الزمن الكوزموغوني إلى زمن الأصول والتنظيم في مطالع التاريخ. تتمثل السرمدية في الأوقيانوس المائي البدئي "نون"، والذي يعادل الأمواه الثلاثة المتمازجة في الأسطورة البابلية. فوق هذه المياه البدئية كانت تحوم روح لاشكل لها ولا هوية، ثم تركزت في داخل هذه الروح تدريجياً كل أشكال الوجود، وصار اسمها آتوم، الذي يعني "العدم" وفي الوقت نفسه "الاكتمال". وفي لحظة معينة انبثق أتوم من هذه الهيولى الأولى وتجلى تحت اسم "رع"، ومعه ابتدأ الزمن الكوزموغوني. فقد أنجب رع توأمان هما الهواء "شو" والرطوبة "تفنوت"، وأنجب هذان الزوجان بدورهما السماء "نوت"، والأرض "جيب"، ومن زواج السماء والأرض تأتي إلى الوجود العائلة الأوزيرية: أوزيريس وإيزيس وسيت ونفتيس وحوروس الأكبر.

بعد الانتهاء من الزمن الكوزموغوني ندخل زمن الأصول الذي يعلب فيه الإله أوزيريس الدور الرئيسي. كان أوزيريس أول ملك على الأرض، وقد كرس نفسه منذ البداية لتنظيم شؤون العالم مبتدئاً بمصر حيث أبطل العادات الهمجية السائدة، وعلّم الناس كيفية صناعة الأدوات الزراعية واستخدامها، كما علمهم أكل الخبز وشرب النبيذ والجعة وبناء البيوت والموسيقى، وأسَّس الديانة الأولى وعلم البشر عبادة الآلهة. وبعد أن أرسى التقاليد الحضارية في مصر رحل إلى بقية أرجاء العالم ليعلم البشر في كل مكان ما علّمه للمصريين، ثم قفل عائداً إلى دياره. لكن هذه اليوتوبيا التي صنعها أوزيريس لم تكن لتدوم طويلاً؛ فلقد دخل الشر المسرح الكوني ممثَّلاً بالإله سيت الأخ التوأم لأوزيريس. كان سيت يُكنُّ لأخيه حسداً وضغينةً منذ البداية، ويعمل خفية على تخريب كل ما يبنيه. وفي السنة الثامنة والعشرين من حكم أوزيريس، دبر له سيت مكيدة فقتله غيلة وقطع جسده إلى أربع عشرة قطعة وزعها في طول البلاد وعرضها. ولكن إيزيس تهب للبحث عن أجزاء زوجها فتجدها وتجمعها إلى بعضها وتنفخ فيها الروح فيبعث أوزيريس إلى الحياة، ولكنه لايفضل البقاء في عالم دب فيه الفساد، فيهبط مختاراً إلى العالم الأسفل ليغدو حاكماً وقاضياً يحاكم الموتى في دنياهم الثانية، بينما تابع ابنه حوروس (الأصغر) مقارعة عمه سيت، ويستمر الصراع بين القوتين الكونيتين، قوة النور والخير وقوة الظلام والشر.
في هذه الأسطورة المصرية، نقف مرة أخرى أمام رؤية الإنسان القديم للتاريخ باعتباره تجل لفعاليات الآلهة في الزمن، ولرؤيته للوضع الإنساني الراهن باعتباره نتاجاً لما باشرته القوى الإلهية في الأزمنة الميثولوجية التي تلت الخلق والتكوين. غير أن هذه الميثولوجيا تضيف إلى رؤيتها للتاريخ عنصراً جديداً لم نألفه في الميثولوجيا المشرقية قبل ظهور الزرادشتية. فالإنسان محكوم بصراع كوني بين قوة الخير وقوة الشر، انطلق عقب الخلق والتكوين، وعلى الفرد أن يختار الوقوف إلى جانب إحدى هاتين القوتين ويُعبّر من خلال سلوكه في الحياة عن خياره هذا. وبما أن الإله الذي استهل تاريخ الإنسان ووضع الملامح العامة لأصول التحضر البشري، هو نفسه الإله الذي تحول إلى قاضٍ في العالم الأسفل يحاسب الموتى ويقرر مصيرهم بين النعيم والجحيم، فإن التاريخ بأكمله يغدو مجالاً لامتحان البشر في عالم الصراع الكوني هذا، ويغدو الخلق والتكوين وصيرورة الزمن مجرد مقدمة للوقفة الأخيرة التي يقفها الميت أمام الميزان المنصوب في قاعة محكمة أوزيريس المدعوة بقاعة العدالة.

هذه الفكرة المصرية عن معنى التاريخ وغاياته، سوف تظهر بأشكال شتى في المعتقدات المشرقية ابتداءً من الزرادشتية في القرن السابع قبل الميلاد، وما تلاها من ديانات الوحي التي أسس لها شخصيات روحية متفوقة انطلاقاً من إرشاد سماوي تلقوه. وهي الزرادشتية واليهودية والمسيحية والمانوية والإسلام. فهنا لا يتوقف التاريخ المقدس عند زمن الأصول والتنظيم، وما يتبعه من تداخلات عرضية في حياة المجتمعات الإنسانية، بل ينسحب هذا التاريخ على كامل صيرورة الزمن بدءاً من التكوين وإنهاءاً باليوم الأخير. ولسوف نقدم فيما يلي نموذجاً لهذه الرؤية إلى التاريخ من خلال المعتقد التوراتي والمعتقد المسيحي.

ترسم الميثولوجيا التوراتية صورة للسرمدية السابقة على التكوين أشبه بالصورة التي رسمتها الميثولوجيا المصرية، عندما كانت روح بلا هوية أو شكل تحوم فوق المياه الأزلية. ففي البدء لم يكن سوى لجة ماء وظلمة، وروح الرب يرف فوق سطح الغمر (التكوين 1:1-2). ثم تقرر الألوهة الخروج من حالة الكمون هذه، فتظهر نفسها من خلال خلق مظاهر الكون الذي يكتمل في خمسة أيام، وفي اليوم السادس يتم خلق الإنسان، ثم يستريح الخالق في اليوم السابع الذي يقع على الحد الفاصل بين الزمن الكوزموغوني والزمن التاريخي. بعد ذلك تبدأ فعاليات الألوهة في زمن الأصول وبدايات التاريخ. نقرأ في الإصحاح الثاني من سفر التكوين: "كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل على الأرض. ثم كان ضباب يطلع ويسقي كل وجه الأرض… وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الرب الإله من كل شجر شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر". يلي ذلك قصة خلق حواء من ضلع آدم، ووصيته لهما أن يأكلا من كل شجر الجنة إلا شجرة معرفة الخير والشر. يليها قصة إغواء الحية لهما بالأكل، ووقوعهما في الخطيئة، وما تبع ذلك من خسارتهما للجنة وخروجهما إلى الأرض ليحصلا زرقهما بالكد والتعب.

نلاحظ هنا كيف تم القفز فوق معظم تفاصيل الأصول التي ركزت عليها الميثولوجيا المشرقية السابقة، في مقابل التركيز على أصل رئيسي هو أصل الخطيئة، لأن التاريخ من وجهة نظر التوراة هو تاريخ للخطيئة بامتياز، ويسير عبر النمط التالي: خطيئة ← عقاب جماعي رادع ← توبة ← خطيئة، وهكذا في دورة دائبة. إن كل ما يتلى خروج آدم وحواء من الجنة والدخول في زمن العالم، ليس إلا إبانة عن المشيئة الإلهية في التاريخ. فمن قابيل وهابيل، إلى تكاثر الناس وتجمعهم في برج بابل ثم تشتيتهم في بقاع الأرض، إلى الطوفان العظيم، إلى اختيار يهوه لشعبه الخاص، ومسيرة هذا الشعب عبر كل المحن والمصائب التي حلت به بسبب خطاياه، وصولاً إلى دمار الهيكل وما تلاه من سبي، فعودة، فدمار ثانٍ، جميعها فصول في ميثولوجيا توراتية تفصح عن مقاصد الإله في حياة الناس، ويتخذ كل حدث فيها معناه ومغزاه من هذه الصلة مع المشيئة الإلهية. من هنا فإن ميثولوجيا الأصول ليست وقفاً على الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، بل تنسحب على جميع فصول الكتاب، الذي يعتبر كتاباً في الأصول ومثالاً على التاريخ المقدس بامتياز، يبدأ بالتكوين والخطيئة وينتهي بظهور مسيح اليهود، الملك الأرضي الذي يمهد الطريق لحلول مملكة الرب التي يديرها الإله بشكل مباشر.

في المعتقدات المسيحية ينطلق آباء الكنيسة في رسمهم للتاريخ المقدس من مطلع إنجيل يوحنا، الذي يعطي صورة عن السرمدية الساكنة الأولى عندما يقول: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله كان الكلمة. به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان.

في غياهب السرمدية، على ما يتابع آباء الكنيسة، كانت الألوهة منكفئة على نفسها ومنطوية على ثلاث أقانيم هي الأب والابن والروح القدس، ثلاثة في إله واحد. ثم جاء وقت أراد الله فيه أن يُظهر فيه أول أشكال خلقه، فصدر أمر الكلمة الذي نشأ عنه صنف من المخلوقات الخالدة هم الملائكة، الذين تموضعوا في أفلاك حول الذات الإلهية. ولقد جاء الملائكة إلى الوجود ككائنات حرة الإرادة، لأنه بدون الحرية لم يكن لهؤلاء القيام بمهمتهم التي خلقوا لها، وهي المقدرة على الحب؛ فالحب الذي هو جوهر الألوهة لامعنى له إذا لم يوهب عن حرية وعن اختيار. ولكن هذه الحرية استُخدمت في التمرد والعصيان من قبل أحد الملائكة المقربين في الفلك الأول، وحدث شرخ في ذلك الكمال البدئي.

كان اسم ذلك الملاك لوسيفر، والذي يعني باليونانية حامل الضياء أو ناثر الضياء؛ وكان الأكثر جمالاً وبهاءً بين رهط الملائكة وذروة في كمال صنعة الخالق. أمعن لوسيفر النظر إلى قلب الثالوث الأقدس وأخذ يشارك الألوهة في معرفتها للمستقبل، فرآى أن الله كان يُعد مكاناً أعلى منزلةً لمخلوق جديد مصنوع من جسد مادي، سوف يفوقه في سُلم المراتب السماوية، فقرر وبدافع عن حريته الكاملة تفضيل مجده الملائكي على الغاية الإلهية، والعصيان على تقديم الطاعة لمن هو أدنى منه مرتبةً، ووقف إلى جانبه حشد كبير من الملائكة الآخرين بعد أن نقل إليهم ماعرفه من أمور المستقبل، فتولوا عن بؤرة النور الأعظم، وقادهم لوسيفر إلى تخوم الظلمة التحتية التي تترامى فوق هاوية العدم، حيث تحول إلى إبليس وأتباعه من الملائكة الساقطين إلى شياطين.

بعد ذلك تستمر خطة الخلق كما هو وارد في الرواية التوراتية، وهي الخطة التي تنتهي بخلق الإنسان الذي وهبه الله أيضاً الحرية التي استخدمها أيضاً في مخالفة الرب عندما أكل من الشجرة المحرمة، فكان عقابه الطرد من الجنة إلى الأرض القاحلة ليعمل فيها ويكد. ومنذ ذلك الوقت ظهر الألم والمرض، ودخل الموت في نسيج الحياة بسبب الخطيئة الأصلية للإنسان.

لقد كان الله على علم منذ البداية بأن الحرية التي منحت للملائكة وللإنسان سوف تُستخدم في المعصية التي تزرع بذرة الفساد في صميم الخلق. من هنا فقد أضمر خطة لتصحيح ذلك كله، من شأنها تقديم الخلاص للإنسان وللعالم. لقد قرر في الوقت المناسب أن يتجسد في العالم المادي كأحد مخلوقاته، ويدخل في دورة الحياة والموت لكي يقدم للعالم خلاصاً ويحرره من اللعنة القديمة. وهكذا تجسدت الألوهة في زمن الناس، وهبط الإله الابن من السماء وعاش في جسد يسوع الناصري، وكابد شقاء البشر، وتعرض للعذاب الذي انتهى بالموت على الصليب. وبذلك افتدت الذبيحة الإلهية، وهي القربان الكامل، الإنسان وفتحت أمامه باب الخلاص والدخول في الأبدية. من هنا كانت واقعة التجسد مركز التاريخ، وانطلاقاً منها تجري قراءة التاريخ صعوداً نحو الخلق والتكوين وهبوطاً نحو نحاية العالم، عندما يتم دحر الشيطان وينتهي صراع الخير والشر الذي كان الإنسان بؤرته.

انطلاقاً من هذه الرؤية إلى التاريخ، لم يكن الفكر الغربي المسيحي يرى إلى الإحداث السابقة على المسيحية إلا باعتبارها فترة مظلمة لم يعرف الناس خلالها الله إلا من خلال ظلال قاتمة لا تعكس مجده الحقيقي، بما في ذلك كامل المدة التي تغطيها فترة العهد القديم، أي كتاب التوراة. فالتاريخ يبدأ بآدم، ثم يبدأ بداية ثانية بالمسيح، وليس الزمن الفاصل بين هاتين البدايتين إلا شكلاً من أشكال الجاهلية الإنسانية، حيث كانت البشرية تنتظر المخلِّص. لقد عكس قدوم المخلِّص مبدأ السبب والنتيجة في الصيرورة التاريخية؛ فبدلاً من أن يُقرأ الحاضر على ضوء الماضي باعتباره نتيجة له، صار الحاضر (أي تجسد المسيح) سبباً لكل الأحداث الماضية التي صارت تُفهم على ضوئه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
tousman

tousman


عدد المساهمات : 650
تاريخ التسجيل : 08/05/2011

الأسطورة- فراس السواح Empty
مُساهمةموضوع: رد: الأسطورة- فراس السواح   الأسطورة- فراس السواح Emptyالسبت مايو 21, 2011 5:53 am

الأسطورة- فراس السواح Arton159

وظيفة الأسطورة

لقد كانت اللغة أول أشكال الترميز الموضوعي التي ابتكرها الإنسان، واكتشف معها مقدرته الهائلة على استيعاب ماحوله من خلال تكوين المفاهيم، تم موضعتها في الخارج عن طريق الكلمات، والاستناد بعد ذلك إلى هذه الكلمات من أجل خلق مستوى آخر من المفاهيم أعلى من سابقه، وهكذا في سلسلة متصاعدة رافقت ارتقاءه.

ولقد اكتشف الإنسان بعد مدة طويلة من استخدامه للغة في المجالات النفعية اليومية، مقدرته على التعامل مع اللغة واستخدامها في مجالات غير نفعية وغير مباشرة. وهذا ماقاده إلى إنتاج الشعر وإنتاج الأسطورة، وهما عنصران في نظام رمزي واحد عمل من خلاله على تحويل وموضعة تجربته الانفعالية مع الكون والنفس الداخلية. والإنسان في ترميزه الأسطوري لهذه التجربة، لا يلجأ إلى التحليل والتعليل الخطي المنظم بل إلى إنتاج بنية أدبية تحاول من خلال تمثيلاتها وصورها الحركية إعادة إنتاج العالم على مستوى الرمز، وذلك في وحدات أدبية تعمل على اختزاله ثم إعادة تقديمة للوعي.

وفي الحقيقة، فإن الفلسفة والعلم اللذين وُلدا من رحم الأسطورة، يقومان بالمهمة نفسها، أي اختزال تجربتنا مع العالم وتقديمه إلى الوعي وقد تم تفسيره وترتيبه. ولكن بينما يلجأ العالم والفلسفة إلى العقل التحليلي الذي يجزيء العالم ثم يعيد تركيبه من أجل فهمه، معتمداً في ذلك على الاختبار في العلم، والبرهان في الفلسفة، فإن الأسطورة تضع الإنسان بكليته في مواجهة العالم، وتستخدم كل المجازات الممكنة من أجل تقديم رؤية متكاملة لهذا العالم، ذات طابع كلاني يعادل تجربة الإنسان الكلانية وغير المتجزئة معه.

إن كلاً من الأسطورة والفلسفة والعلم يستجيب على طريقته لمطلب النظام، لمطلب أن يعيش الإنسان ضمن عالم مفهوم ومرتب، وأن يتغلب على حالة الفوضى الخارجية التي تتبدى للوعي في مواجهته مع الطبيعة. فالفلسفة تُنتج نظاماً مترابطاً من المفاهيم التجريدية يدَّعي تفسير العالم؛ والعلم يخلق نظاماً من المبادئ والقوانين التي يعتمد بعضها على بعض، وتنتهي إلى ترميز العالم في بنى رياضية عالية التجريد. وفي مقابل هرمية نظام المفاهيم الفلسفي وهرمية نظام القوانين العلمي الرياضي، فإن الأسطورة تعمد من جانبها إلى خلق نظام قوامه الآلهة والقوى الماورائية، التي يعتمد بعضها على بعض أيضاً، في هرمية متسقة للأسباب والنتائج. وهي إذ تؤنسن الكون حين تبث فيه عنصر الإرادات الفاعلة والعواطف المتباينة، فإنها تصنع صورة لكون حي لايقوم على مبادئ ميكانيكية متبادلة التأثير، بل على إرادات وعواطف تتبدى في شكل حركي. وهي تفتح خزاناً لا ينضب معينه من وسائل الترميز، كما تفتح البوابات على مصاريعها بين الوعي واللاوعي، في تجربة كلانية تحافظ على علائق الإنسان الطبيعانية مع عالمه.

من هنا ينبع سلطان الأسطورة وسطوتها على النفس، حتى في دولة العلم العالمية التي نعيشها اليوم. ذلك أن الأسطورة تعطينا ذلك الإحساس بالوحدة بين المنظور والغيبي، والحي والجامد، بين الإنسان وبقية مظاهر الطبيعة والحياة. والنظام الذي تخلقه الأسطورة ليس نظام العقل المتعالي الذي يجعل نفسه خارج العالم ثم يفسره عن بُعد وكأنه شيء غريب عنه، بل هو نظام الإنسان المتعدد الأبعاد الذي لايستطيع أن يرى نفسه خارج العالم الذي يعمل على تفسيره، ويدرك بطريقة ما أن المفسِّر والمفسَّر وجهان لعملة واحدة. من هنا فإن ما يميز متلقي الأسطورة عن دارس نظام فلسفي أو نظرية علمية، هو أن متلقي الأسطورة لا يشعر بأنه قد أضاف إلى معارفه شيئاً جديداً، وإنما غدا أكثر توافقاً وانسجاماً مع نفسه ومع العالم.

وتعتمد الأسطورة في تقنياتها على استخدام الظلال السحرية للكلمات. فالكلمات في أي لغة ذات وجهين، وجه دلالي يرتبط بالمعاني القريبة والمباشرة للمسميات، ووجه آخر سحري متلون بظلال متدرجة بين الخفاء والوضوح، قادرة على الإيحاء بمعانٍ غير مباشرة واستثارة مشاعر وأهواء متباينة. ولقد استفاد الشعر بدوره من هذه الخصيصة السحرية للغة، ومن هنا يأتي ذلك الطابع النبوي للغة الشعرية؛ فالشعر هو السليل المباشر للأسطورة وابنها الشرعي، وقد شق لنفسه طريقاً مستقلاً بعد أن أتقن عن الأسطورة ذلك التناوب بين التصريح والتلميح، بين الدلالة والإشارة، بين المقولة والشطحة؛ وبعد أن أتقن عنها أيضاً كيف يمكن للغة السحرية أن تقول الكثير من خلال القليل، وأن تشبعك بالمعنى دون أن تقدم معنى محدداً ودقيقاً، وذلك من خلال رسالة كلانية غير تفصيلية. من هنا نستطيع فهم السبب الكامن وراء هجوم الفلسفة على الشعر، فلقد رأى أفلاطون في كتابه "الجمهورية" ضرورة استبعاد الشعراء من الجمهورية الفاضلة التي تقوم على العقل، لأن السماح بالشعر يعني فتح الطريق أمام الأسطورة.

يمثل تاريخ الفلسفة صراعاً لاهوادة فيه مع الأسطورة. وقد استطاعت الفلسفة التوصل إلى تحديد مهامها وصياغة مفاهميها الخاصة من خلال نقدها للأسطورة. ومع ذلك فإن فلاسفة الإغريق الذين تصدوا لإقامة نظم فلسفية عقلانية، لم ينجوا تماماً من سحر البيان الأسطوري. لقد ركز أفلاطون بشكل خاص على أن الخبرة بالقدسي لايمكن اكتسابها من خلال نشوة صوفية يخلقها الطقس، ولا من خلال رؤية ميثولوجية تقدمها الأسطورة، وإنما عن طريق العقل الصاحي الذي يبدأ بمعرفة الجزئيات وترابطاتها صعوداً نحو مبادئها وعللها؛ ولكنه على الرغم من محاربته للنزعة غير العقلانية في النفس الإنسانية، والتي يعمل الشعر والأسطورة على إرضائها، فإنه عمد خارج كتاب "الجمهورية" إلى تأليف أساطير من صنعه، مثل أسطورة أسرى الكهف، وأسطورة اختيار النفس لمصيرها، وأسطورة الحساب بعد الموت، وذلك لغاية شرح وتوصيل أفكاره المجردة، كما أنه وافق على صياغة أساطير يجري تلقينها للصغار وفق خطة مدروسة من شأنها تدريبهم على تلمس فكرة الخير الكامنة وراء العالم، وذلك لعلمه بما للأسطورة من سلطان على النفوس ومقدرة على تثبيت الأفكار والمعتقدات، وبما في النفس من نزع طبيعي نحو البيان والإيمان وعزوفها عن البرهان. وقبل أفلاطون بزمن كان فلاسفة الإغريق الأوائل من أصحاب المدرسة الأيونية قد تأثروا بشكل خاص بأساطير ديانة الأسرار الأورفية وبالعديد من تصوراتها الماورائية. كما تأثرت المدرسة الفيثاغورثية بالأساطير الأورفية، وإلى درجة يصعب معها التفريق بين العناصر الفيثاغورثية والعناصر الأورفية، وعلى الخصوص عندما ننظر إلى الأفكار المتعلقة بتناسخ الأرواح، ومبدأ الثواب والعقاب في الحياة الأخرى، وما إليها من الأفكار والمبادئ والرموز والتحريمات المشتركة بين هذين النظامين. ويبدو هذا التأثر في أوضح أشكاله في فلسفة أمبيدوقليس حكيم صقلية والتلميذ النجيب لفيثاغورث، التي يعتبرها العارفون بالأورفية بمثابة نسخة دنيوية عنها.

هذا الطابع السحري للأسطورة، وأثرها الفعال في توصيل الأفكار المجردة وتثبيت المعتقدات، يفسر لنا تلك الوحدة المصيرية بين الدين والأسطورة، مما سأتعرض له بكثير من التكثيف والإيجاز فيما يلي: إن الدين في قاعه السيكولوجي الأعمق هو اختبار للقدسي من خلال حالة انفعالية سابقة على أي تصور عقلاني. هذه التجربة لا تختص بفرد دون آخر ولا بفئة دون أخرى، وإنما يتعرض لها الجميع وإن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معها بدرجات متفاوتة أيضاً من القبول والاعتراف. غير أن هذه الخبرة الدينية، الفردية من حيث الأساس والمنشأ، لاتبقى حبيسة السيكولوجيا الفردية، بل يجري عادةً تحويلها لتصب في تيار عقيدةٍ مؤسسةٍ ومصاغةٍ في قوالب، تنشأ حولها طقوس وأساطير تلعب دور المُرشِّد والمنظم للخبرة الدينية، وتدفع عن الفرد وطأة المجابهة المباشرة مع الإحساس بالقدسي. فهنا تقوم الأسطورة الجمعية بترميز الخبرة الدينية الداخلية وتعمل على موضعتها في الخارج، ثم تأتي الطقوس لتلعب دور المطهر للانفعالات الدينية العنيفة. عند هذا المستوى تتحول التجربة الانفعالية إلى مجموعة صور، ويتبلور المعتقد الديني يداً بيد مع الأساطير التي تعيد الانفعال الديني إلى الوعي وقد تحوله إلى معتقد.

تنشأ الأسطورة إذن عن المعتقد الديني وتكون بمثابة امتداد طبيعي له؛ فهي تعمل على توضيحه وإغنائه وتُثَبِّته في صيغ تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال، كما أنها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية. ومن ناحية أخرى، فإن الأسطورة تعمل على تزويد فكرة الألوهة بألوان وظلال حية، لأنها ترسم للآلهة صورها، وتعطيها أسماءها وصفاتها وألقابها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحدد صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض. وبما أن الخبرة الدينية ليست في أساسها خبرة عقلية بل انفعالية، فإنها لاتتطلب بطبيعتها البرهان ولا تتطلع إليه، وإنما تتطلب معادلاً موضوعياً يموضعها في الخارج ويسبغ عليها مشروعية ومعقولية، وذلك من خلال ميثولوجيا تجعل التجربة الدينية مشتركة مع الآخرين. وهنا تعمد الأسطورة إلى استنفاذ القوى السحرية للغة من أجل موضعة خبرة كلانية بالقدسي لا تستطيع توصيلها مفردات اللغة المستمدة من التجربة اليومية. وهذا يفسر لنا لماذا لم يعمد كهان الديانات وأصحاب الرسالات الدينية عبر التاريخ إلى مخاطبة الناس بصيغة البرهان بل بصيغة البيان. إن الاستماع إلى بضع آيات من أي كتاب مقدس (وليكن التاو الصيني أو أناشيد الغاثا الزرادشتي، أو الأوبانيشاد الهندوسي، أو المزامير التوراتية، أو الإنجيل) تغني المؤمن عن قراءة مئات الصفحات التي تخاطب عقله بالمنطق والبرهان. يضاف إلى ذلك أن مثل هذه الآيات هي صيغ رمزية غير خاضعة للنفي أو الإثبات بالتقصي العلمي أو التحليل الفلسفي، شأنها في ذلك شأن الخبرة الدينية التي نشأت عنها. من هنا تأتي تلك المناعة التي أظهرها الدين حتى الآن أمام النقد الفلسفي والعلمي، واستمراره فاعلاً ومؤثراً في الحضارة الإنسانية على الرغم من لامعقولية تعبيراته الرمزية.

إن أي نص فلسفي أو علمي يطرح نظرية ما، ينبغي أن يصاغ بطريقة يمكن معها اختبار هذه النظرية لإثبات صحتها أو بطلانها، وذلك عن طريق البرهان العقلي المنطقي في الفلسفة أو الاختبار التجريبي في العلم. وقابلية النص للاختبار هي في الوقت نفسه قابليته للنفي أو للإثبات، وإن أي نص غير قابل للدحض هو نص زائف من وجهة النظر الفلسفية والعلمية. لقد خرج الفلاسفة الطبيعيون الإغريق، مثلاً، بنظرية عن العواصف الرعدية مفادها أن مثل هذه الظواهر تنجم عن تصادم جزيئات ثقيلة في السحب. وبالطبع فإن هذه النظرية المصممة بطريقة تُعرضها للدحض أو الإثبات، قد دُحضت عندما تم التعرف على الكهرباء وأثر الشحنات الكهربائية السالبة والموجبة في تشكيل العواصف الرعدية. أما قول النص الديني المدعم بالأسطورة بأن العواصف الرعدية هي تعبير عن غضب الآلهة، فإن مثل هذه النظرية محصن ضد النقض ولا يمكن دحضه بالمنطق أو بالتجربة. وحتى عندما تعترف هذه النظرية الدينية بأن للكهرباء دورا في إحداث الرعود، فإنها تؤكد في الوقت ذاته على أن الكهرباء ليست إلا أداة مسخرة في يد الإرادة الإلهية، وأن المسبب الحقيقي للرعد هو الإله الذي يسخّر خصائص الكهرباء. وفي الحقيقة، فإن الفلسفة والعلم اللذين وُلدا من رحم الأسطورة، يقومان بالمهمة نفسها، أي اختزال تجربتنا مع العالم وتقديمه إلى الوعي وقد تم تفسيره وترتيبه. ولكن بينما يلجأ العالم والفلسفة إلى العقل التحليلي الذي يجزيء العالم ثم يعيد تركيبه من أجل فهمه، معتمداً في ذلك على الاختبار في العلم، والبرهان في الفلسفة، فإن الأسطورة تضع الإنسان بكليته في مواجهة العالم، وتستخدم كل المجازات الممكنة من أجل تقديم رؤية متكاملة لهذا العالم، ذات طابع كلاني يعادل تجربة الإنسان الكلانية وغير المتجزئة معه.

إن كلاً من الأسطورة والفلسفة والعلم يستجيب على طريقته لمطلب النظام، لمطلب أن يعيش الإنسان ضمن عالم مفهوم ومرتب، وأن يتغلب على حالة الفوضى الخارجية التي تتبدى للوعي في مواجهته مع الطبيعة. فالفلسفة تُنتج نظاماً مترابطاً من المفاهيم التجريدية يدَّعي تفسير العالم؛ والعلم يخلق نظاماً من المبادئ والقوانين التي يعتمد بعضها على بعض، وتنتهي إلى ترميز العالم في بنى رياضية عالية التجريد. وفي مقابل هرمية نظام المفاهيم الفلسفي وهرمية نظام القوانين العلمي الرياضي، فإن الأسطورة تعمد من جانبها إلى خلق نظام قوامه الآلهة والقوى الماورائية، التي يعتمد بعضها على بعض أيضاً، في هرمية متسقة للأسباب والنتائج. وهي إذ تؤنسن الكون حين تبث فيه عنصر الإرادات الفاعلة والعواطف المتباينة، فإنها تصنع صورة لكون حي لايقوم على مبادئ ميكانيكية متبادلة التأثير، بل على إرادات وعواطف تتبدى في شكل حركي. وهي تفتح خزاناً لا ينضب معينه من وسائل الترميز، كما تفتح البوابات على مصاريعها بين الوعي واللاوعي، في تجربة كلانية تحافظ على علائق الإنسان الطبيعانية مع عالمه.

من هنا ينبع سلطان الأسطورة وسطوتها على النفس، حتى في دولة العلم العالمية التي نعيشها اليوم. ذلك أن الأسطورة تعطينا ذلك الإحساس بالوحدة بين المنظور والغيبي، والحي والجامد، بين الإنسان وبقية مظاهر الطبيعة والحياة. والنظام الذي تخلقه الأسطورة ليس نظام العقل المتعالي الذي يجعل نفسه خارج العالم ثم يفسره عن بُعد وكأنه شيء غريب عنه، بل هو نظام الإنسان المتعدد الأبعاد الذي لايستطيع أن يرى نفسه خارج العالم الذي يعمل على تفسيره، ويدرك بطريقة ما أن المفسِّر والمفسَّر وجهان لعملة واحدة. من هنا فإن ما يميز متلقي الأسطورة عن دارس نظام فلسفي أو نظرية علمية، هو أن متلقي الأسطورة لا يشعر بأنه قد أضاف إلى معارفه شيئاً جديداً، وإنما غدا أكثر توافقاً وانسجاماً مع نفسه ومع العالم. وتعتمد الأسطورة في تقنياتها على استخدام الظلال السحرية للكلمات. فالكلمات في أي لغة ذات وجهين، وجه دلالي يرتبط بالمعاني القريبة والمباشرة للمسميات، ووجه آخر سحري متلون بظلال متدرجة بين الخفاء والوضوح، قادرة على الإيحاء بمعانٍ غير مباشرة واستثارة مشاعر وأهواء متباينة. ولقد استفاد الشعر بدوره من هذه الخصيصة السحرية للغة، ومن هنا يأتي ذلك الطابع النبوي للغة الشعرية؛ فالشعر هو السليل المباشر للأسطورة وابنها الشرعي، وقد شق لنفسه طريقاً مستقلاً بعد أن أتقن عن الأسطورة ذلك التناوب بين التصريح والتلميح، بين الدلالة والإشارة، بين المقولة والشطحة؛ وبعد أن أتقن عنها أيضاً كيف يمكن للغة السحرية أن تقول الكثير من خلال القليل، وأن تشبعك بالمعنى دون أن تقدم معنى محدداً ودقيقاً، وذلك من خلال رسالة كلانية غير تفصيلية. من هنا نستطيع فهم السبب الكامن وراء هجوم الفلسفة على الشعر، فلقد رأى أفلاطون في كتابه "الجمهورية" ضرورة استبعاد الشعراء من الجمهورية الفاضلة التي تقوم على العقل، لأن السماح بالشعر يعني فتح الطريق أمام الأسطورة.

يمثل تاريخ الفلسفة صراعاً لاهوادة فيه مع الأسطورة. وقد استطاعت الفلسفة التوصل إلى تحديد مهامها وصياغة مفاهميها الخاصة من خلال نقدها للأسطورة. ومع ذلك فإن فلاسفة الإغريق الذين تصدوا لإقامة نظم فلسفية عقلانية، لم ينجوا تماماً من سحر البيان الأسطوري. لقد ركز أفلاطون بشكل خاص على أن الخبرة بالقدسي لايمكن اكتسابها من خلال نشوة صوفية يخلقها الطقس، ولا من خلال رؤية ميثولوجية تقدمها الأسطورة، وإنما عن طريق العقل الصاحي الذي يبدأ بمعرفة الجزئيات وترابطاتها صعوداً نحو مبادئها وعللها؛ ولكنه على الرغم من محاربته للنزعة غير العقلانية في النفس الإنسانية، والتي يعمل الشعر والأسطورة على إرضائها، فإنه عمد خارج كتاب "الجمهورية" إلى تأليف أساطير من صنعه، مثل أسطورة أسرى الكهف، وأسطورة اختيار النفس لمصيرها، وأسطورة الحساب بعد الموت، وذلك لغاية شرح وتوصيل أفكاره المجردة، كما أنه وافق على صياغة أساطير يجري تلقينها للصغار وفق خطة مدروسة من شأنها تدريبهم على تلمس فكرة الخير الكامنة وراء العالم، وذلك لعلمه بما للأسطورة من سلطان على النفوس ومقدرة على تثبيت الأفكار والمعتقدات، وبما في النفس من نزع طبيعي نحو البيان والإيمان وعزوفها عن البرهان. وقبل أفلاطون بزمن كان فلاسفة الإغريق الأوائل من أصحاب المدرسة الأيونية قد تأثروا بشكل خاص بأساطير ديانة الأسرار الأورفية وبالعديد من تصوراتها الماورائية. كما تأثرت المدرسة الفيثاغورثية بالأساطير الأورفية، وإلى درجة يصعب معها التفريق بين العناصر الفيثاغورثية والعناصر الأورفية، وعلى الخصوص عندما ننظر إلى الأفكار المتعلقة بتناسخ الأرواح، ومبدأ الثواب والعقاب في الحياة الأخرى، وما إليها من الأفكار والمبادئ والرموز والتحريمات المشتركة بين هذين النظامين. ويبدو هذا التأثر في أوضح أشكاله في فلسفة أمبيدوقليس حكيم صقلية والتلميذ النجيب لفيثاغورث، التي يعتبرها العارفون بالأورفية بمثابة نسخة دنيوية عنها. هذا الطابع السحري للأسطورة، وأثرها الفعال في توصيل الأفكار المجردة وتثبيت المعتقدات، يفسر لنا تلك الوحدة المصيرية بين الدين والأسطورة، مما سأتعرض له بكثير من التكثيف والإيجاز فيما يلي: إن الدين في قاعه السيكولوجي الأعمق هو اختبار للقدسي من خلال حالة انفعالية سابقة على أي تصور عقلاني. هذه التجربة لا تختص بفرد دون آخر ولا بفئة دون أخرى، وإنما يتعرض لها الجميع وإن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معها بدرجات متفاوتة أيضاً من القبول والاعتراف. غير أن هذه الخبرة الدينية، الفردية من حيث الأساس والمنشأ، لاتبقى حبيسة السيكولوجيا الفردية، بل يجري عادةً تحويلها لتصب في تيار عقيدةٍ مؤسسةٍ ومصاغةٍ في قوالب، تنشأ حولها طقوس وأساطير تلعب دور المُرشِّد والمنظم للخبرة الدينية، وتدفع عن الفرد وطأة المجابهة المباشرة مع الإحساس بالقدسي. فهنا تقوم الأسطورة الجمعية بترميز الخبرة الدينية الداخلية وتعمل على موضعتها في الخارج، ثم تأتي الطقوس لتلعب دور المطهر للانفعالات الدينية العنيفة. عند هذا المستوى تتحول التجربة الانفعالية إلى مجموعة صور، ويتبلور المعتقد الديني يداً بيد مع الأساطير التي تعيد الانفعال الديني إلى الوعي وقد تحوله إلى معتقد.

تنشأ الأسطورة إذن عن المعتقد الديني وتكون بمثابة امتداد طبيعي له؛ فهي تعمل على توضيحه وإغنائه وتُثَبِّته في صيغ تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال، كما أنها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية. ومن ناحية أخرى، فإن الأسطورة تعمل على تزويد فكرة الألوهة بألوان وظلال حية، لأنها ترسم للآلهة صورها، وتعطيها أسماءها وصفاتها وألقابها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحدد صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض. وبما أن الخبرة الدينية ليست في أساسها خبرة عقلية بل انفعالية، فإنها لاتتطلب بطبيعتها البرهان ولا تتطلع إليه، وإنما تتطلب معادلاً موضوعياً يموضعها في الخارج ويسبغ عليها مشروعية ومعقولية، وذلك من خلال ميثولوجيا تجعل التجربة الدينية مشتركة مع الآخرين. وهنا تعمد الأسطورة إلى استنفاذ القوى السحرية للغة من أجل موضعة خبرة كلانية بالقدسي لا تستطيع توصيلها مفردات اللغة المستمدة من التجربة اليومية. وهذا يفسر لنا لماذا لم يعمد كهان الديانات وأصحاب الرسالات الدينية عبر التاريخ إلى مخاطبة الناس بصيغة البرهان بل بصيغة البيان. إن الاستماع إلى بضع آيات من أي كتاب مقدس (وليكن التاو الصيني أو أناشيد الغاثا الزرادشتي، أو الأوبانيشاد الهندوسي، أو المزامير التوراتية، أو الإنجيل) تغني المؤمن عن قراءة مئات الصفحات التي تخاطب عقله بالمنطق والبرهان. يضاف إلى ذلك أن مثل هذه الآيات هي صيغ رمزية غير خاضعة للنفي أو الإثبات بالتقصي العلمي أو التحليل الفلسفي، شأنها في ذلك شأن الخبرة الدينية التي نشأت عنها. من هنا تأتي تلك المناعة التي أظهرها الدين حتى الآن أمام النقد الفلسفي والعلمي، واستمراره فاعلاً ومؤثراً في الحضارة الإنسانية على الرغم من لامعقولية تعبيراته الرمزية.

إن أي نص فلسفي أو علمي يطرح نظرية ما، ينبغي أن يصاغ بطريقة يمكن معها اختبار هذه النظرية لإثبات صحتها أو بطلانها، وذلك عن طريق البرهان العقلي المنطقي في الفلسفة أو الاختبار التجريبي في العلم. وقابلية النص للاختبار هي في الوقت نفسه قابليته للنفي أو للإثبات، وإن أي نص غير قابل للدحض هو نص زائف من وجهة النظر الفلسفية والعلمية. لقد خرج الفلاسفة الطبيعيون الإغريق، مثلاً، بنظرية عن العواصف الرعدية مفادها أن مثل هذه الظواهر تنجم عن تصادم جزيئات ثقيلة في السحب. وبالطبع فإن هذه النظرية المصممة بطريقة تُعرضها للدحض أو الإثبات، قد دُحضت عندما تم التعرف على الكهرباء وأثر الشحنات الكهربائية السالبة والموجبة في تشكيل العواصف الرعدية. أما قول النص الديني المدعم بالأسطورة بأن العواصف الرعدية هي تعبير عن غضب الآلهة، فإن مثل هذه النظرية محصن ضد النقض ولا يمكن دحضه بالمنطق أو بالتجربة. وحتى عندما تعترف هذه النظرية الدينية بأن للكهرباء دورا في إحداث الرعود، فإنها تؤكد في الوقت ذاته على أن الكهرباء ليست إلا أداة مسخرة في يد الإرادة الإلهية، وأن المسبب الحقيقي للرعد هو الإله الذي يسخّر خصائص الكهرباء.

ثم أن النظرية المفتوحة على الدحض تقدم إرشادات من أجل الممارسة، وهذه الإرشادات إما أن تقودك إلى التثبت من النظرية أو دحضها، أما النظرية المحصنة ضد النقض فلا تعطيك سوى تعليمات لايقودك تنفيذها إلى معرفة صحة النظرية من خطئها. وإليكم هذا المثال البسيط عما أقول: لنفرض أن سائلاً سأل عن الطريق إلى الكنيسة، فقال له أحدهم: "استمر مباشرةً في هذا الطريق ثم انعطف شمالاً وستجد الكنيسة في آخر الشارع قبل النافورة". إن مثل هذا القول يحتوي إرشاداً لأن السالك بعد بضعة دقائق سيعرف نتيجة عمله بهذا الإرشاد، فإما أن يجد الكنيسة وإما أن لا يجدها. لقد وصل صاحبنا إلى الكنيسة فعلاً، وهناك سأل الكاهن عن الطريق إلى ملكوت السماوات، فقال له: "تبرع لصندوق الكنيسة وأشعل شمعة في المحراب و…إلخ، وحين تموت فإن روحك تذهب إلى ملكوت السماوات". فدفع الرجل وأشعل شمعة وفعل كل ما هو مطلوب من مسيحي مؤمن. ولكن النظرية الثانية لا تقدم إرشاداً للممارسة كما فعلت النظرية الأولى عندما دلته على الطريق إلى الكنيسة. ذلك أن الموضوع هنا يتعلق أولاً بالروح، وهي ليست مما يمكن التأكد منه بأي طريقة عملية، وثانياً لأن ذهاب الروح إلى الملكوت شأن لا يمكن اختباره بالتجربة. من هنا فإن هذه النظرية لايمكن إثبات زيفها من صحتها. لقد تلقى الرجل في مثالنا هذا تعليمات عليه أن يثق بها دون مساءلة ولم يتلق إرشاداً، لأن الإرشاد من شأنه أن يكشف لك عن صحة ما قيل أم خطئه. لقد وُضعت أمامه تفاصيل الفعل ولكن الهدف الذي يتوجب عليه تحقيقه من وراء هذا الفعل يقع خارج المعرفة العملية، ولا يمكن الجزم بإمكانية تحققه من عدمها
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
tousman

tousman


عدد المساهمات : 650
تاريخ التسجيل : 08/05/2011

الأسطورة- فراس السواح Empty
مُساهمةموضوع: رد: الأسطورة- فراس السواح   الأسطورة- فراس السواح Emptyالسبت مايو 21, 2011 5:54 am

دور الأسطورة في حياة الفرد والجماعة

في مقالتي السابقة "وظيفة الأسطورة"، شرحت حيث استطاعت الفلسفة تحديد مهامها وصياغة مفاهيمها الخاصة انطلاقاً من نقدها للأسطورة. ولكن هذا لم يعنِ بحال من الأحوال انتصاراً مؤزراً للفلسفة على الأسطورة. فالأسطورة لم تكن معنية بالنقد الفلسفي، ولم يكن الفكر الأسطوري يشعر بالتهديد الحقيقي من قبل الفكر الفلسفي بسبب تلك الخصيصة الأساسية فيه، وأعني بها امتناعه على الدحض أو على البرهان وسيادته على الجانب الانفعالي غير العقلاني في الإنسان. ففي عقر الدار التي نشأت فيها الفلسفة، أي بلاد اليونان، وبعد الفلاسفة الأيونيين الأوائل والسفسطائيين وسقراط وأفلاطون وأرسطو، شهدت الاتجاهات الروحانية في الديانة الإغريقية المتمثلة في عبادات الأسرار، ازدهاراً كبيراً، وذلك مثل الأسرار الإليوسيسية والأسرار الأورفية، وازداد أتباعها عن السابق بشكل ملحوظ، إضافةً إلى ظهور عبادات أسرار جديدة وفدت من الشرق، نذكر منها أسرار سيبيل وأسرار إيزيس وأسرار ميثرا. من هنا فإن ما يقال لنا من أن الفلسفة قد وضعت حداً للفكر الديني والميثولوجي هو قول مشكوك بصحته، ويسير مع الفرض القائل بأن الدين هو شكل أدنى من النظر العقلي والفلسفة هي شكله الأعلى.

إننا غالباً ما نقبل الرأي القائل بأن تاريخ الفكر الإنساني قد مر عبر أربع مراحل هي: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي. وقد تشكل هذا الرأي انطلاقاً من فرضية هيجل التي تقول بأن عصراً ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة الإنسانية. ثم جاء الأنثروبولوجي البريطاني السير جيمس فريزر ليصوغ في مطلع القرن العشرين نظريته المعروفة حول أصل الدين وعلاقته بالسحر عند جذور التحضر الإنساني، وقدم لنا وجهة نظر محكمة وجذابة بشأن المراحل الأربع لتطور الفكر الإنساني، جعلتها في حكم البدهية التي يسوقها معظم الكتاب دون إخضاعها للنقد المسبق. غير أن نظرة فاحصة على مسار الحياة الفكرية للإنسان تُظهر لنا بوضوح أن الفلسفة الإغريقة لم تكن سوى بارقاً عارضاً ما لبث أن انطفأ أمام مد الفكر الديني والأسطوري، ثم تراجع الفكر الفلسفي قروناً عديدة قبل أن يُبعث مجدداً متكئاً عصاً عربية أبقت على قبس من الفلسفة متقد على هامش ثقافة دينية سائدة، سواء في الحضارة العربية أم في الحضارة الغربية إبان العصور الوسطى. أما العلم، فعلى الرغم من الأرضية الصلبة التي فرشتها له الفلسفة مع فترة مدها الأولى، فإنه بقي أسير التصورات الدينية والأسطورية إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوروبا، وجاء كوبرنيكوس بنظرية جديدة عن النظام الشمسي كانت فاتحة لاستقلال العلم عن الدين؛ ثم يتبع كوبرنيكوس غاليلو فنيوتن، اللذين كان لهما معاً فضل وضع أسس التفكير العلمي الحديث.

يقودنا هذا إلى طرح عدد من التساؤلات المشروعة: هل آلت دولة الأسطورة تماماً لصالح دولة العلم الكونية الحديثة؟ وهل انتصرت النزعة العقلانية بعد هذه القرون الطويلة من صراعها مع الأسطورة؟ هل ندرس الأسطورة اليوم باعتبارها ظاهرة ثقافية تمتُّ إلى ماضي الحضارات الإنسانية؟ وهل لم يبق للأسطورة أي أثر محرك في حياتنا اليومية؟

لقد تراجعت الأسطورة عن مواقعها القديمة كمركز للحياة الفكرية في المجتمعات، وقامت الفلسفة والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية بالاستيلاء على معظم ميادينها، وبشكل خاص تلك الميادين ذات الموضوعات التي يمكن إخضاع مقولاتها للبرهان وللاختبار، ولكنها بقيت متحصنة في ذلك الموقع الحصين الذي لم تستطع دولة العقل والعلم الحديثة دكه حتى الآن، وهو الدين، وفي تلك المساحة الضيقة من أطروحات الدين التي بقيت عصية على الدحض وعلى الاختبار. فالأديان القائمة اليوم في شتى ثقافات العالم مازالت تحافظ على أساطيرها التقليدية، على الرغم من نضوب الفكر الأسطوري الذي كان فاعلاً ومؤثرًا في شتى مناحي حياة الثقافات القديمة. ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى قيام اتفاق ضمني بين الدين والعلم على التعايش وعدم الاعتداء، حيث تُركت الطبيعة بقضها وقضيضها إلى المناهج العلمية تُعمل فيها تجزئةً ودرساً وتمحيصاً، وبقي الدين متحصناً في الماورائيات، في تلك المواقع التي لايرغب العلم في الاقتراب منها، أو يعلن عدم مقدرته في الوقت الحاضر على التعامل معها. وهنا تلعب المعتقدات الدينية وأساطيرها دوراً إيجابياً باعتبارها وسيلة تواصل فعالة تجمع وتوحّد في عالم يجنح نحو التغريب والتفريق.

غير أن المشكلة في أديان اليوم هي في تحول الأساطير إلى دوغما تخدم إيديولوجيا جامدة لا تقبل التغيير. ففي مقابل الخلق الدائم والتلقائي للأساطير في الزمن الماضي صارت الأساطير إلى حالة ثابتة تعكس جملة من المعتقدات التي تحرسها المؤسسة الدينية وتعمل على عدم تعريضها للتفسير المنفتح أو التأويل. وهذا ما يهدد بانقطاع التجربة الروحية الداخلية عن تعبيراتها الخارجية، وتحويلها إلى جملة من القناعات الذهنية السطحية، وإلى جملة من الطقوس التي فقدت فحواها ودورها ومعناها. وهنا يتحول الأيمان الطوعي إلى إيمان مفروض، ويفتح الباب واسعاً أمام الهرطقات التي تقطع الأفراد عن تجربتهم الروحية وترميهم في صحراء من الخواء النفسي.

اليوم لاتوجد أساطير حقيقية فاعلة على نطاق واسع في الحياة الفكرية والروحية للثقافات الحديثة، خارج الأديان القائمة التي جعلت من أساطيرها بنى متحجرة من الماضي البعيد، أشبه بتلك البنى الحجرية المتهدمة التي تركها لنا الأقدمون. غير أن الأسطورة لاتمارس تأثيرها فقط من خلال نصوصها المتداولة، وإنما من خلال ذلك النزوع الأسطوري المتجذر في السيكولوجية الفردية والجمعية. من هنا فإن انحسار الأسطورة عن معظم مواقعها القديمة لايعني استئصال النزوع الأسطوري الذي يقبع في أعماق النفس متخفياً خلف آليات التفكير العلمي والفلسفي. ولهذا النزوع وجه إيجابي وآخر سلبي.

في جانبه الإيجابي، يعمل النزوع الأسطوري على التخفيف من سلطان النزعة العقلانية التي ترى إلى الكون باعتباره آلة جبارة عمياء تعمل وفق قوانين أزلية ميكانيكية. فمع مغادرة العصور الوسطى في أوربا والدخول في العصور الحديثة، أخذ المفهوم القديم عن عالم عضوي حي يتلاشى تدريجياً ليحل محله مفهوم عن كون ميكانيكي آلي لاحياة فيه. وقادت فلسفة ديكارت وفيزياء نيوتن وفلكيات كوبرنيكوس إلى عكس مسار السعي العلمي وتغيير أهدافه؛ فبعد أن كان سعي العلم يتجه نحو اكتساب الحكمة وفهم سبل الطبيعة من أجل العيش بوئام معها، تحول سعيه إلى السيطرة على الطبيعة عوضاً عن التكامل معها، وشرع الإنسان في استخدام معارفه العلمية والتقنية من أجل الإخلال بنظام البيئة المستقر، وترافق ذلك مع نظام للقيم المعرفية تم تعميمه على العالم بأسره تقريباً، حل محل النظم المعرفية التقليدية التي تنطلق من الإحساس بالوحدة مع الوسط الطبيعي وبتداخل الظواهر الروحانية والمادية.

وهنا يأتي دور النزعة الأسطورية لدى الإنسان، والتي تجد تجسيدها الأكثر إيجابية وحيوية وفعالية من خلال الشعر والفن.

يقوم الشعر والفن التشكيلي بإعادة برقعة الطبيعة بذلك الستار الصوفي الأخاذ، بعد أن نزعت الثورة العلمية عنها قداستها وكشفت الأسرار عن الكثير من مجرياتها. ومن هنا ضرورة الفن الذي يعيدنا إلى الطبيعة ويعيد وحدتنا معها ككائنات طبيعانية بالدرجة الأولى، كما يعيدنا إلى التأمل في الغايات القائمة خلف المظاهر الكونية المختلفة، ويُرجع إلينا ذل الحدس الخلاق والإدراك الباطني للمدهش والرائع والفائق و…. القدسي. وإلى جانب الشعر والفن التشكيلي هناك فنون أخرى تمتح من ذات المصدر الميثولوجي، وعلى رأسها الدراما والسينما. فلقد أخذت الدراما الإغريقية تلعب دوراً هاماً في حياة الناس في بلاد اليونان، بعد أن تحولت أساطير الديانة الأوليمبية إلى أدبيات دنيوية ونُزعت عنها غلالاتها الميثولوجية. وفي العصر الحديث ترافقت نهضة الدراما مع الثورة العلمية في القرن السادس عشر والثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وما أحدثته هاتان الثورتان من فراغ ميثولوجي داخلي. أما عن صعود السينما وتحريكها لمليارات البشر حول المعمورة فلا يمكن تفسيره إلا بصدور الفن السينمائي عن نزوع ميثولوجي

وسده لحاجات ميثولوجية أصيلة لدى جماهير الناس، حتى غدت السينما بمثابة الصانع الرئيسي للأساطير في العصر الحديث.

وهكذا فما دامت الأسطورة، باعتبارها ميلاً ونزوعاً، تعمل كخميرة لكل أشكال التعبير الفني وتضع بين أيدينا منظاراً ملوناً يعيد البهجة والمعنى إلى الحياة، فإن باستطاعتنا الركون إليها واعتبارها مصدراً إيجابياً لإنتاج الثقافة واستهلاكها.

غير أن النزوع الأسطوري، باعتبار طبيعته غير العقلانية، قد يشكل مصدر خطر في العديد من المجالات. ففي فترات المحن والشدائد التي يمر بها مجتمع ما، تطفو الأسطورة على سطح الوعي ويأخذ السياسيون وحتى العلماء التحدث بما يشبه الأساطير. في مثل هذا الجو غير العقلاني الذي يجتاح الجماهير، قد يجد أكثر أصحاب العقول رجاحةً صعوبة في مقاومة التوجه إلى مكانٍ ظهر فيه طيف السيدة العذراء، أو الانضمام إلى المتدافعين للحصول على البركة والشفاء من تمثال قيل أنه يذرف الدمع أو آخر قيل أن قطرات الدم تتساقط من مواقع الجراح على كفيه وقدميه. وقد تنبعث من أعماق اللاشعور الجمعي رموز ميثولوجية قديمة تجد تجسيداً لها في ظواهر يسبغ عليها الهوس الجمعي طابعاً إعجازياً وبعداً ماورائياً. من ذلك ما حدث منذ سنوات ليست بالبعيدة في بلدة سورية نائية قيل أنه ظهر فيها تيس يحلب اللبن، وأن لبنه يصنع المعجزات ويشفي من الأمراض عن طريق الشرب أو الدهن، فصارت تلك البلدة محجاً لكل مريض يائس في الشفاء. وهكذا تم بعث إله الخصب السوري القديم من مرقده، وراح أحد رموزه التقليدية يسرح في العصر الحديث ويوزع بركاته على الناس. وفي صيف عام 1996 تجول كاهن كندي في محافظات سورية ولبنان، معلناً أنه قادر على شفاء الأمراض بإذن الله وإيمان الناس. وفي كل مدينة حل بها لقي تعاوناً من السلطات المحلية التي كان رجالها على رأس قاصدي عروضه وفي الصفوف الأمامية من عشرات الآلاف الذين تدافعوا إما للشفاء أو لمشاهدة ذلك العرض المدهش.

كما يتجلى النزوع الميثولوجي في المجتمعات الحديثة في ما نراه من جنوح جماهير الشباب إلى خلق أنصاف آلهة تسكن الأرض، وتقدم للناس عزاءات صغيرة تعوضها عن جفاف الحياة العصرية وغربة الأفراد عن بعضهم فيها. ولنا في نجوم موسيقى الروك، والهارد روك، والميتال، خير مثال على نزوع الجماهير إلى خلق مثل هذه الشخصيات التي تحيط بها هالة من القداسة جديرة بأي إله شعبي أو قديس أو ولي. إن ما نراه في صالات الروك الضخمة من هوس جمعي، ليشير إلى نشوء "عبادات" دنيوية من حيث الشكل ولكنها تتمتع بكل ما للعبادات الدينية من فعل وتأثير، وتصدر عن ذات النوازع الأسطورية المتأصلة في النفس البشرية، والتي جعلت في الماضي الأسطورة ممكنة. يكفي أن تشاهد واحدة من هذه الحفلات المجنونة على شاشة التلفاز، أو تنخرط بواحدة منها إذا كنت من صغار السن، حتى تقتنع بأن عربدات طقوس الإله ديونيسيوس لم تمت، وأنها مازالت تمارَس تحت أسماء جديدة وبأشكال جديدة، وذلك كلما ازدادت وحشة ووحدة الشباب في هذا العالم الغريب، وكلما ازدادت حاجتهم إلى الشعور بالاتحاد والاندماج. فالإنسان الحديث الذي يفخر بعقلانيته وعلمانيته، هو سليل ذلك الإنسان القديم صانع الأساطير، وهو إذ يدير ظهره لأساطيره الدينية التي فقدت لديه كل مقدرة على الإيحاء، إنما يعمل على استبدالها بأساطير مزيفة وطقوس عابثة، قد ترضي ذلك النزوع الأسطوري لديه ولكنها لاتجعله في انسجام وتلاؤم مع متطلباته الحقيقية. وهذا ما يجعل الجماهير عرضة على الدوام للوقوع في براثن أساطير حديثة مصممة بشكل مدروس، من أجل توجيه الجماهير والسيطرة عليها. ويتجلى ذلك بأخطر صوره في مجال السياسة.

يقول الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر في كتابه "الأسطورة والدولة" الصفحة 372 وما بعدها من الترجمة العربية:
"لقد بدأ العالم السياسي يشعر منذ عام 1933 بالقلق من إعادة تسليح ألمانيا. والواقع أن إعادة تسليح ألمانيا قد بدأ قبل ذلك بسنوات عديدة وإن لم يلحظه أحد، وذلك عندما جرت عملية إحياء الأساطير، ولم تكن إعادة التسليح إلا نتيجة ضرورية لإعادة التسليح التي أحدثتها الأساطير السياسية، وأول خطوة اقتضت الضرورة القيام بها هي إحداث تغيير في مهمة اللغة. ولو أني قرأت في هذه الأيام كتاباً من الكتب الموجهة التي نشرت في ذلك الوقت، فسأرى بأني لم أعد قادراً على فهم اللغة الألمانية. فلقد تم صك كلمات جديدة، بل وأصبحت الكلمات القديمة تستخدم للدلالة على معانٍ جديدة. ويرجع هذا التغيير إلى أن هذه الكلمات التي كانت تُستعمل في أغراض دلالية ووضعية ومنطقية، قد أصبح لها الآن دور سحري قُصد به إحداث آثار معينة وتحريك انفعالات معينة. ولكن البراعة في استعمال الكلمة السحرية ليس كل شيء، فلكي تُحدث الكلمة تأثيرها كاملاً ينبغي أن تضاف إليها طقوس جديدة. وتتميز هذه الطقوس برتابتها وصرامتها وتزمتها، شأنها في ذلك شأن الطقوس في المجتمعات البدائية. فلكل طبقة وجنس وجيل من الأجيال الطقوس الخاصة به، فلا أحد يستطيع السير في الطرقات، أو تحية جاره أو صديقه دون الاهتمام بأحد الطقوس السياسية. والعواقب المترتبة على هذه الطقوس الجدية واضحة، فلا شيء يمكن أن يخمد كل قوانا الفعالة وقدراتنا على الحكم والإدراك النقدي، وينزع عنا الشعور بالشخصية والمسؤولية الفردية، مثل الأداء التلقائي المطرد لنفس الطقوس".

إن الإيديولوجيا النازية التي قادت إلى كارثة على مستوى العالم قد سيطرت على عقول عشرات الملايين من خلال أساطير رثة مثل "أسطورة الفوهرر الملهم" و "أسطورة العرق الآري المتفوق"، وما إليها من أساطير تتزيى بزي علمي زائف تم زرعها بمهارة في مجتمع يفخر بأنه صانع الفلسفة الحديثة في أوروبا ورائد التفكير العلمي والتكنولوجيا المتفوقة. وقد عمد مفكرو وإعلاميو هذه الإيديولوجيا منذ البداية إلى نبذ كل ما يمت إلى "البرهان" بصلة مؤكدين على "البيان" السحري في كتاباتهم ومنشوراتهم، واستطاعوا خلال فترة وجيزة الولوج من بوابة اللاعقلانية المفتوحة دوماً في النفس الإنسانية، فاستولوا على نفوس وعقول أكثر شعوب أوروبا نزوعاً نحو التفكير العقلاني الصارم. يقول أحد مفكري الحركة النازية فيلهلم ستابل: "إن الحركات السياسية التي تلجأ للإقناع هي الحركات التي نالت مكانتها أصلاً بالإقناع. أما النازية فإنها إيديولوجيا بسيطة وتقوم على أفكار أولية لاتحتاج إلى اللجوء للإقناع". وقد أكد هتلر نفسه في كتابه المشهور "كفاحي" على ضرورة تفادي الإقناع في التوجه إلى الجماهير، والتركيز على مخاطبة العواطف والانفعالات، وتميزت أفكاره التي طرحها في هذا الكتاب وفي جميع خطبه الشهيرة، بعدم قابليتها للبرهان على أي صعيد وابتعادها عن أبسط الوقائع العلمية.

إن من يسخر اليوم من أمثال هذه الأساطير السياسية الحديثة، عليه أن يتذكر أن هذه الأساطير نفسها هي التي قادت ملايين الألمان إلى الموت في بطاح روسيا الثلجية وفي صحارى شمال أفريقيا، وأن أمثالها جاهزة أبداً للتوالد كلما سنحت لها الفرصة، فبوابات اللاعقلانية الإنسانية جاهزة دائماً للانفتاح على مصاريعها وتدمير كل ما بناه العقل الإنساني بكد وأناة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
tousman

tousman


عدد المساهمات : 650
تاريخ التسجيل : 08/05/2011

الأسطورة- فراس السواح Empty
مُساهمةموضوع: رد: الأسطورة- فراس السواح   الأسطورة- فراس السواح Emptyالسبت مايو 21, 2011 5:56 am

الأسطورة- فراس السواح Arton172

كيف نفهم الأسطورة؟

في مقالة سابقة، قلت بأن الأسطورة هي ناتج انفعالي غير عقلاني، أي أنها تصدر عن حالة عاطفية تتخطى العقل لتنتج صوراً ذهنية مباشرة تعكس تلك العلاقة الكلانية بين الذات/الوعي، والعالم/ المادة. إلا أن الأسطورة ليست انفعالاً صرفاً لأنها توسط الأفكار في محاولتها للتعبير عن ذلك الانفعال وموضعته في الخارج. فهي والحالة هذه نشاط يصدر عن ذهنية لم تتعلم بعد كيفية تجزئة موضوع معرفتها وتحليله ثم إعادة تركيبه. إنها نوع من الحدس بالكليات يموضع معرفته الكلانية في صور ومشاهد وشخصيات مفعمة برموز ذات دلالات، بعضها يتصل بعالم الشعور وبعضها بعالم اللاشعور. من هنا فإنها لا تشكل معرفة بالمعنى الدقيق للكلمة. فكيف نستطيع اليوم اختراق هذه البنية الرمزية المعقدة من أجل الوصول إلى رسائلها الضمنية؟ وكيف يستطيع العقل الحديث التفاعل مع هذه التركة الثقافية الغريبة عنه كل الغرابة؟

إننا أمام مشكلة تتعلق بالتفسير. فنحن اليوم على الرغم من إحساسنا بسطوة الأسطورة ونفاذها إلى أعماقنا لتودع رسالة ما هناك؟ إلا أننا غالباً ما نضيع عن فهم هذه الرسالة وإعادة صياغتها بطريقة خطية تنتقل من المقدمات إلى نتائجها. أما لب هذه المشكلة فهو أننا لا نستطيع تجاوز ذلك الناظم الأساسي للعقل الحديث، وأعني به ناظم البرهان. فلقد أعادت الفلسفة الإغريقية، والفلسفة العربية من بعدها، تشكيل العمليات العقلية للإنسان الحديث وفق قواعد البرهان المنطقي، ثم تابعت العلوم المختلفة التي استقلت عن الفلسفة هذه المهمة، فنشأ البرهان الرياضي والبرهان التجريبي بجميع صوره وأشكاله، مما قادنا إلى عصر المعلوماتية الراهن. وبما أن البرهان مرتبط عضوياً بعملية التحليل والتفكيك، وبالإدراك المجزأ لموضوع معرفته فإنه أبعد ما يكون عن "المنطق" الأسطوري، الذي يحدس ولا يحلل ولا يرى في الجزء إلا صورة عن الكل وينظر إلى البرهان كشأن متضمن في عملية البيان.

إلى جانب هذا الانفصال النوعي بين العقل الحديث والعقل الميثولوجي، هنالك انفصال من نوع آخر هو انفصال القدم والانقطاع. فالعالم القديم الذي أنتج الأساطير هوعالم بعيد عنا زمنياً، والعديد من حضاراته السالفة قد ظهر أمامنا فجأةً من تحت التلال الآثارية، ولم نكن نعرف عنه شيئاً ولا أسلافنا القدماء كانوا يعرفون. فهذه الحضارات موغلة في القدم من جهة، ومنقطعة عنا من جهة أخرى. ولتوضيح مسألة الفرق بين القدم والانقطاع أقول بأن عصر الخلافة الأموية هو عصر بعيد عنا كل البعد ولكنه غير منقطع؛ فنحن متصلون به عبر سلسلة لم تنقطع حلقاتها، ولم يأت في سياق الزمن الذي يصلنا به وقت نسي فيه الناس خلفاء بني أمية أو أشعار وأخبار ذلك العصر. أما حضارة سومر أو إيبلا فقد ظهرت لنا دفعة واحدةً ولم نكن نعرف عنها شيئاً قبل بضعة عقود من الزمن، ولا الأقدمون منا أيضاً، فهي بعيدة ومنقطعة في الآن نفسه.

ومما يزيد مسألة البعد والانقطاع تعقيداً أن الحضارات التي صنعت الأساطير لم تكن تنتظم في زمان ثقافي متصل ومتجانس، بل إنها أيضاً تعاني من مشكلة التباعد الزماني، والانقطاع في أحيانٍ كثيرة. فالحضارة الآشورية بعيدة عن الحضارة السومرية بُعد الحضارة الآشورية عن زمننا، وسومر منقطعة عن آشور أكثر من انقطاع آشور عنا. لقد كان الآشوريون ورثة ثلاثة آلاف عام من حضارة وادي الرافدين، ولكنهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن الثقافة السومرية وتاريخها وملوكها، ولم تكن النصوص السومرية القليلة الموجودة في مكتبة آشور بانيبال إلا نسخاً عن أصول قديمة لا يعرف أحد عن أصلها وفصلها.

على أننا نجد بعض العزاء في أن المتأخرين من مفكري العالم القديم، لم يكونوا في وضع أفضل منا عندما حاولوا تأمل عالم الأسطورة إبان الفترات الأخيرة من تاريخ الشرق القديم، بعد أن اقتحمت عليه الثقافة الإغريقية وأحدثت تغييرات عميقة في بنية وأساليب التفكير المشرقي. وهذه نقطة تحتاج بعض التوضيح بالأمثلة التي أورد أبرزها فيما يلي:

برغوشا ونظرية التكوين البابلية:
في القرن الثالث قبل الميلاد عاش كاهن بابلي يدعى برغوشا، وضع العديد من المؤلفات باللغة اليونانية، ودعاه اليونانيون بيروسوس. ومن أهم مؤلفات هذا الكاهن كتاب عن تاريخ بابل وحضارتها جمع فيه كل ما وصل إليه علمه عن حضارة شعبه. ولكن هذا الكتاب الهام ضاع ولم يبقَ منه سوى شذرات أوردها بعض المؤلفين الكلاسيكيين، ومنها هذه الشذرة التي يتحدث فيها عن أسطورة التكوين البابلية فيقول:"في البدء لم يكن سوى الظلام والمياه. ثم ظهرت إلى الوجود مخلوقات عجيبة التكوين: رجال ذوو أجنحة ولهم وجهان بدل الوجه الواحد، وآخرون ذوو أجسام بشرية ولكن برأسين رأس لامرأة وآخر لرجل، وكانت أعضاؤهم الجنسية مذكرة ومؤنثة في آنٍ معاً؛ وغيرهم لهم سيقان الماعز وقرون أو حوافر الخيل وأذيالها؛ وبالمقابل كان هنالك حيوانات شتى استعارت من بعضها، كما استعارت أعضاء بشرية أيضاً. وفوق هؤلاء حكمت امرأة اسمها آموركا، والكلمة في اللغة الكلدانية تعني تامتي، أي البحر. ثم جاء مردوخ بل فصارع المرأة وشطرها نصفين فجعل من نصفها الأول الأرض ومن نصفها الثاني السماء، وقبض على المخلوقات العجيبة التي تتبعها جميعاً وأحل النظام في الكون. ولكن الأرض كانت خربة ومهجورة، فأمر مردوخ بخلق الإنسان من تراب ممزوج بدم إله قتيل ليملأ الأرض، ثم صنع الحيوانات بأجناسها، وبعد ذلك خلق النجوم والكواكب والشمس والقمر."

مما لاشك فيه هو أن جزءاً لا بأس به من المعلومات المتعلقة بالمعتقدات البابلية القديمة عن أصل الكون والآلهة قد وصل إلى برغوشا؛ ولكن الأمر المؤكد هو أن نص أسطورة التكوين البابلية الأساسي الذي بين أيدينا اليوم، والذي تحدرت منه هذه الشذرات التي أوردها، لم يكن متوفراً بين يديه. فعلى الرغم من اتفاق رواية برغوشا في كثير من عناصرها مع الأسطورة الأصلية، إلا أن الاختلاف بينهما واضح في كثير من الأحداث الرئيسية وترتيبها، وفي اختزال بعضها وغياب البعض الآخر. والأهم من ذلك كله هو أن ما قدمه برغوشا ليس أسطورة وإنما معلومات تتعلق بأسطورة، وقد قصَّر عن نقل جو الأسطورة ومراميها الأصلية. وهو يبدو لنا اليوم أشبه بتقرير لمراسل صحفي غير متخصص يتحدث عن اكتشاف أثري حديث. إنه صورة عن فترة النزع الأخير لعالم الديانات الشرقية القديمة، بعد جفاف روحها وانقطاع أصولها.

فيلو الجبيلي:
وكما قام بيروسوس البابلي بوضع كتاب عن تاريخ البابليين، كذلك فعل المفكر السوري فيلو الجبيلي قبله بقرنين، عندما وضع كتاباً عن تاريخ الفينيقيين وحضارتهم. ومن المؤسف أن كتاب فيلو قد ضاع مثلما ضاع كتاب بيروسوس، ولم يبق منه سوى مقتبسات أوردها بعض المؤلفين الكلاسيكيين، ومنها روايته عن أسطورة التكوين الفينيقية التي يقول في مطلعها:

"في البدء، لم يكن هناك سوى هواء عاصف وخواء مظلم. ثم إن هذا الهواء وقع في حب مبادئه الخاصة وتمازج، ذلك التمازج دُعي الرغبة، وهي مبدأ خلق جميع الأشياء. ولم يكن للهواء معرفة بما فعل. وقد نشأ عن تمازج الهواء مُوت، الذي كان عبارة عن كتلة من الطين أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة. وهو بذرة خلق وأصل الأشياء. ثم استضاء الهواء بالتهاب اليابسة والبحر، وتحركت الرياح والغيوم وهطل المطر على الأرض مدراراً. وبتأثير حرارة الشمس انفصلت الأشياء وطارت من مكانها لتتصادم في الجو، فنشأت البروق والرعود، وعلى صوتها أفاقت ذوات الحياة مذعورة وراحت تتنقل على اليابسة وفي البحر، ذكوراً وإناثاً…".

يتضح من هذا النص الذي يشكل مطلع نظرية التكوين الفينيقية التي ينسبها فيلو إلى كاهن كنعاني قديم يدعى سانخونياتن، أن هذا الكاتب كان يحاول استجلاء طبيعة الفكر الأسطوري الكنعاني القديم، استناداً إلى معلومات مبعثرة جمعها في نص تفوح منه رائحة الفكر الفلسفي اليوناني. وفي الحقيقة فإن ما وصلنا من معلومات مباشرة عن الميثولوجيا الكنعانية، سواء من نصوص أوغاريت أم من منقوشات فينيقية متفرقة، يلقي ظلالاً من الشك على نظرية التكوين المنسوبة لقدماء الفينيقيين هذه، وعلى معلومات فيلو والمواقف التي يصدر عنها. لقد عاش هذا المفكر في بيئة مشبعة بالثقافة الهيلينستية، وفي زمن كانت فيه الأسطورة تتلقى أوجع ضربات الفلسفة الإغريقية، فجاء عمله بمثابة مساهمة أخرى في الحرب المعلنة من الفلسفة على الأسطورة.

هذا الحديث عن اليونان يقودنا إلى ما أدعوه بالمشكلة الإغريقية في دراسة الأسطورة.

المشكلة الإغريقية:
تبدي الثقافة الإغريقية انقطاعات حادة في مسيرتها لم تعرف مثلها ثقافة الشرق القديم. فلقد رأينا منذ قليل أن كاهناً بابلياً من القرن الثالث قبل الميلاد كان قادراً على جمع وتحقيق معلومات عن الثقافة البابلية ترجع إلى ماقبل عصره بنحو ألف وخمسمئة سنة. أما إغريق القرن السابع قبل الميلاد، وهو القرن الذي وعى فيه الإغريق أنفسهم تاريخياً، فلم يكونوا يعرفون عن ماضيهم القديم ما يتجاوز الحروب الطروادية (أي أواخر القرن الثالث عشر) التي اعتبروها بداية لتأسيس الحضارة الإغريقية، وينظرون إليها كماضٍ مغرق في القدم على الرغم من قربها النسبي إليهم. ولكننا نعرف اليوم أن اللغة اليونانية قد دخلت بلاد اليونان القارية في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، مع جماعات تنتمي إلى الذخيرة الهندو- أوربية، وأن دخول هذه الجماعات كان بداية مرحلة ثقافية جديدة في أرض اليونان. وهذا يعني أن حوالي ألف عام من تاريخ الثقافة اليونانية كان مجهولاً لدى إغريق القرن السابع قبل الميلاد.

ويتجلى انقطاع الثقافة الإغريقية عن ماضيها بشكل واضح في مجال الأساطير والمعتقدات الدينية. يقول هيرودوتس، المؤرخ اليوناني المتوفى عام 425 ق.م إن هزيود وهوميروس اللذين عاشا قبله بنحو أربعمئة سنة هما اللذان رسما للإغريق أساطيرهم وصور آلهتهم. وهذا القول الذي أُخذ على عِلاَّته زمناً طويلاً لايعكس بالطبع حقيقة الأمر، ويعطي صورة عن جهل الإغريق بأصول ديانتهم وأساطيرهم؛ فكل ما كانوا يعرفونه أيام هيرودوتس لم يكن يتعدى في قدمه روايات هذين المؤلفين، اللذي جمعا ونسقا وأعادا صياغة التقاليد التي تواترت إليهما منذ القدم.والمشكلة التي تواجهنا اليوم في دراسة الميثولوجيا الإغريقية، هي أننا على الرغم من معرفتنا الأكيدة بأن هزيود وهوميروس قد قدما لنا النسخة الأخيرة المنقحة عن التقاليد الميثولوجية الأقدم، إلا أننا لانستطيع اختراقهما وصولاً إلى الأشكال الأصلية، كما فعلنا مع بيروسوس وفيلو الجبيلي. والسبب في ذلك راجع إلى عدم توفر نصوص أسطورية من الفترات السابقة للقرن الثامن قبل الميلاد. ونحن مضطرون إلى الاعتماد على صياغات أدبية للميثولوجيا الإغريقية عبثت بها يد محرريها. هذه الصياغات التي ابتدأها هزيود وهوميروس ثم تابعها فيما بعد عدد من المؤلفين الكلاسيكيين، تمثل انتصار العمل الأدبي على المعتقد الديني. فنحن لانملك اليوم أسطورة يونانية نقلت إلينا في سياقها الديني الشعائري، وإنما من خلال وثائق أدبية منمقة منقطعة عن خبراتها الدينية الأصلية، أي من خلال ميثولوجيا مجردة من القدسية. وفيما عدا ميثولوجيات ديانات الأسرار التي نجت من التصرف الأدبي إلى حدٍ ما، وذلك بسبب الطابع المغلق لتلك الديانات، فإني أرى أن معظم التفسيرات التي جهد الميثولوجيون المحدثون في استنباطها للأساطير الكلاسيكية، هي جهد ضائع بحق لأنها لم تكن تتعامل مع أساطير أصلية بل مع نسخ أدبية لايربطها بأصولها إلا أوهى الروابط. من هنا، فإنني أرى بأن أي دراسة للميثولوجيا الإغريقية يجب أن تنظر إلى هذا الركام الأدبي كمصدر ثانوي ومشكوك به وخاضع للنقد، وتلتفت إلى الميثولوجيات الخاصة بديانات الأسرار في الثقافة الكلاسيكية، لأنها الميثولوجيات الوحيدة التي تمثل بحق ما بقي من الميثولوجيا اليونانية الأصلية.

أعود إلى ما ابتدأت به من مشكلة التفسير، فأقول بأننا على الرغم من كل هذه العقبات فنحن مطالبون بفهم وتفسير هذه التركة الميثولوجية الغنية، لأننا لانستطيع أن نبقي على هذا المصدر الهام من مصادر الثقافة الإنسانية في دائرة الظل، ولا أن نقول مع البعض بأن الأسطورة ليست إلا نتاج مرحلة طفولة العقل الإنساني القاصر، في مرحلة من مراحل تطوره، وأنها تفتقر إلى أي قيمة إيجابية أو مغزى، لأننا نكون بذلك قد حكمنا على الحضارات الكبرى الغابرة بأنها لم تكن سوى أقنعة للغباء البدائي.

غالباً ما يبدأ دارسوا الميثولوجيا باستعراض ونقد المدارس الرئيسية التي نشأت منذ أواسط القرن التاسع عشر، من نظرية طقسية، أو طبيعانية، أو براجماتية، أو سيكولوجية، أو بنيوية، وغيرها، لينتهوا إلى الوقوف إلى جانب واحدة منها، أو التأسيس لنظرية جديدة ينطلقون منها. ولكنني التزمت ومازلت ألتزم منهجاً تجريبياً لايقوم على نظرية بعينها تدعي الشمول والإطلاق، بل على النظر إلى كل نسق ميثولوجي على حدة، وإلى خصوصية كل أسطورة ضمن هذا النسق الميثولوجي الذي تنتمي إليه. ولكي تصل إلى سر أسطورة ما عليك أن تستسلم إليها بعيداً عن آليات التفكير العلمي الحديث، وتتلقاها بكليتك مثلما كان الإنسان القديم يتلقاها.

إن للأسطورة نظام داخلي متماسك ينطوي على رسالة ما، على الرغم مما يبدو عليها من تفكك ظاهري أحياناً، وهو نظام لا ينسجم مع مفهومنا الحديث عن النظام. هذه الرسالة كانت مفهومة ومستوعبة من قبل الإنسان القديم، الذي لم يكن بحاجة إلى القيام بما نقوم به اليوم لكي يفهم أساطيره ويستوعب رسائلها. إن أحد الفروق الهامة بين فكرنا الحديث وفكر الإنسان القديم، هو أننا لا نستطيع فهم ظاهرة ما بكليتها إن لم نعمد إلى تفكيكها ومعرفة أجزائها المستقلة جزءاً جزءاً؛ وكلما اعتقدنا أننا فهمنا الأجزاء عند مستوى معين انتقلنا إلى المستوى الأعلى، وهكذا وصولاً إلى الفهم الكلي اعتماداً على السير الخطي من مرحلة إلى أخرى؛ وذلك على عكس الإنسان القديم الذي كان يرى إلى الظاهرة بكليتها، ولا تستمد الأجزاء عنده أهميتها إلا من الكل. من هنا فإن المعنى الذي نحاول الكشف عنه في الأسطورة باستخدام أدواتنا التحليلية يبقى ظلاً باهتاً للمعنى الميثولوجي الخفي في النص.

إن مشكلتنا مع المعنى في الأسطورة ناجم عن مفهومنا للمعنى في اللغة. فنحن عندما نريد توضيح كلمة ما فإننا نورد عدداً آخر من الكلمات المرادفة لها تعمل على توضيح المعنى في الذهن، وهذا ما تفعله القواميس عادةً. ولكن إحساسنا بالكلمة يبقى إحساساً مباشراً، وتستثير فينا من الانفعالات المختلفة ما لاتستطيع الكلمات المفسرة خلقه. فإذا استشرت القاموس بخصوص كلمة النار مثلاً لقال لك: اشتعال حريق، توقد، إلى ما هنالك من مترادفات تحاول نقل المعنى المطلوب. ولكن حاول في ليلة مظلمة أن توقد ناراً في الخلاء وتلبث أمامها ساكناً تحدق فيها، عند ذلك فقط يمكن لك أن تستلم سر الكلمة دون وسيط، لأنك قد تجاوزت الكلمات والمترادفات ونفذت إلى سر الشيء. وهذا ما يتوجب علينا فعله حيال الأسطورة.

إن الأسطورة هي وسيط رمزي يموضع الانفعال الداخلي في الخارج من خلال وسيط رمزي آخر هو الكلمات. ولكننا عندما نأتي إلى التحليل والتفسير فإننا نلجأ إلى وسيط آخر إلى جملة أخرى من الكلمات تعمل على شرح الجملة الأصلية، في الوقت الذي يتوجب علينا أن نزيح تلك الجملة الأصلية وصولاً إلى الحالة الانفعالية التي أنتجت الأسطورة، أي أن نتأمل الأسطورة كما تأملنا النار وننفذ إلى سرها دون وسيط. وهذه مهمة صعبة تنقلنا من "البحث" إلى مايشبه التصوف

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الأسطورة- فراس السواح
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الكروبيم، عرش الرب - فراس السواح
» كربلاء بين الأسطورة والتاريخ - د أحمد لاشين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
عبير الروح :: الفنون :: الحوار الفكري والإجتماعي والسياسي-
انتقل الى: